منتديات البتول المسلمة
يا اهلا وسهلا ومرحبا بزائراتنا الكريمات في منتدانا الحبيب
نتمنى أن تنضمي إلى أسرتنا العزيزة
في انتظار تسجيلك الذي سيسعدنا ويعطر منتدانا
منتديات البتول المسلمة
يا اهلا وسهلا ومرحبا بزائراتنا الكريمات في منتدانا الحبيب
نتمنى أن تنضمي إلى أسرتنا العزيزة
في انتظار تسجيلك الذي سيسعدنا ويعطر منتدانا
منتديات البتول المسلمة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات البتول المسلمة

منتدى اسلامي نسائي متميز عن البقية
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 رواية السجين يهرب...

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
البتول
Admin
Admin
البتول


عدد المساهمات : 249
نقاط : 122472
تاريخ التسجيل : 26/09/2013
الموقع : الفردوس الأعلى إن شاء الله

رواية السجين يهرب... Empty
مُساهمةموضوع: رواية السجين يهرب...   رواية السجين يهرب... Icon_minitimeالخميس يناير 30, 2014 11:34 pm

السجين يهرب ,, الرواية كاملة ,,

هذى رواية السجين كاملة ,, للكاتب خالد بن سليمان الجبرين ,,

الفصل الأول:

"الممرة" قرية صغيرة ذات بيوت صغيرة متلاصقة وسخة تقع في قعر العراق في الشمال بعيداً عن بغداد مسيرة يومين للماشي على قدميه0في أحد دروب الممرة الضيقة يسمع وقع أقدام متعثرة غير منتظمة الوقت ليلاً وبسبب من ضوء القمر الشحيح إنطرح على الأرض ظلال شخص يمشي مترنحاً وعندما لفه الدرب إلى باحة مغلقة على جنباتها عدة أبواب مغلقة تبينت هيئته واضحة تحت شحوب القمر شاب في السابعة والعشرين بثياب بالية وطاقية فقدت لونها الأصلي متوسط القامة متين العضلات حزين الملامح،بعينين نصف مغمضتين كان سكراناً إلى درجة متوسطة ثقيل الخطى يغطي زوايا فمه المليح زبد من اللعاب
وقف الشاب أمام أحد الأبواب المغلقة وطرق كان البيت يدل على مستوى ساكينه بيت صغير لصياد فقير بعد فترة فتح الباب وأطلًت منه وجه امرأة مُسنًة،تمسك خمارها على وجهها،فلما عرفت في الشاب ولدها الوحيد ترت خمارها يسقط عن وجهها وهتفت في حزن وألم:
- أنت سكران ياولدي؟!
أجابها الشاب بصبر نافذ:
- أريد أن أنام
وقبل أن يدفع الباب للدخول أغلقته بسرعة فصاح الشاب:
- أفتحي ياأماه أنا لاأقوى على الوقوف!
ومن وراء الباب أجابته:
- سيرتك السيئة ياولدي سترديك وسيطردك أبوك من البيت
- أفتحي الباب،ولم يعلم أبي أنه نائم
- لن أدعك تدخل حتى أخبره
- لا تخبريه بشيء إن علم بحالي فسيطردني إلى الأبد لقد هددني بذلك
- لقد أقسم عليً بان أوقظه حال وصولك
- الويل لي!
كان يتكلم بلسان ثقيل وزال عنه شيء من غبش السكر عندما سمع وقع أقدام والده يتجه نحو الباب وتوقع حدوث أسوأ الأشياء فظل واقفاً مستسلماً لما سيحدث إنه يخشى هذا الكهل فقد هدده مراراً0وفتح الباب لتخرج منه عصا غليظة، وتهوي على رأسه فيسقط مرعوبا متألماَ00وجلس على الأرض يتحسس رأسه ورفع عينيه فصدم بمرأى والده الذي خلت ملامحه من أي بشائر التسامح كان لحيته البيضاء المستطيلة ترتجف بإرتجاف فكه الأسفل وفي عينيه نظرات الغضب والحسرة ونهره الشيخ بغلظة:
- لماذا جئت؟
أجاب وهو يتحسس الكرة الصغيرة التي نبتت في رأسه:
- أريد أن أنام
- ليس عندي مكان لك بعد اليوم!
فسأل الشاب في لهفة:
- وأين أذهب؟!
- إلى أي أرض تعجبك
- أعف عني يا أبتاه وأعدك أني
- أصمت00 لقد سئمت وعودك الكاذبة عليك الآن أن تتدبر شئونك
وقال الشاب بخجل:
- دعني أنام هذه الليلة فقط!
وقالت أم الشاب التي كانت تقف خلف زوجها:
- دعه ينام هذه الليلة ياعبد المغيث ويرحل في الصباح؟
- رد الكهل بحزم:
- لن يتعدى هذه العتبة اعطني صرة ثيابه
وبعين دامعة ناولته المرأة صرة كانت في يدها فأخذها وقذف بها في وجه ولده الوحيد وهتف محنقاً:
- هذه ثيابك ياغياث لست ولدي ولست والداً لك !
وتناول الشاب الصرة وقام من على الأرض،وهم بأن يلقي بنفسه على والده ويقبل قدميه رجاء عفوه،لكن ما فعله الشيخ قطع عليه آماله، فقد قبض ثوبه من جهة صدره وهزًه بعنف وكأنه طفل وصاح في وجهه:
- إسمع إذا رأيتك في هذا المكان مرة أخرى سأهشم رأسك ثم طرحه على الأرض ودخل مغلقاً الباب وراءه
لفترة جمد الشاب في مكانه ثم تحرك بتراخ لم يدر إلى أين سيذهب، فهام على وجهه مدة حتى صار في ظاهر القرية ثم وجد نفسه يسير جنوباً بمحاذاة نهر دجلة متجهاً إلى بغداد كان يلزمه مسيرة يومين ليصل إلى عاصمة الخلافة لكنه مشا متباطئاً بغير حرص على الوصول كان يجر رجليه جراً!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://albetoul.forumalgerie.net
البتول
Admin
Admin
البتول


عدد المساهمات : 249
نقاط : 122472
تاريخ التسجيل : 26/09/2013
الموقع : الفردوس الأعلى إن شاء الله

رواية السجين يهرب... Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية السجين يهرب...   رواية السجين يهرب... Icon_minitimeالجمعة يناير 31, 2014 12:36 am

ا
لفصل الثاني

العذاب الضيق الأماني العراض التي أفترسها الفشل كل ذلك إنحرف بمسيرته00وأهلك القناعة بداخله،وأوقد في نفسه رغبة مسعورة لتحقيق ما يريد!!
تأمل حاله المزرية
بطالة طاغية فقرٌ مقدع أبوه الصياد كهلٌ متعبٌ حطمته الأيام،ونهشه الفقر والحاجة المستديمة للمال،فأصبح يذكر الموت أكثر من ذكره ملذات الحياة
لكنه مع ذلك زاهدٌ عفيفٌ،لم يسأل أحداً يوماً فلساً واحداً0وعمل مع والده في صباه كثيراً أصبح حواتاً ماهراً يصيد السمك بحربة الصيد مع أي جزء يشاء،ثم عمل حمَّالاًثم مزارعاً ثم حرفياً
لكنه ولد بنفس طموحه إلى المجد والجاه إلى الصيت الذائع،وتراكم في نفسه إعتقاد راسخ بأن مشكلته وسعادته في المال فسعى للبحث عن الثراء بوحشية!
مارس التجارة ففشل،ونفد كل ما معه من نقود جرَّب القمار فلازمته الخسارة الدائمة ثم عمد إلى موهبته الأصلية الشعر استعار جبة وعمامة عريضة ودخل على الولاة وكبار القادة،ونظم القصائد في المديح والتملق،فلم يظفر إلا بالقليل،فترك الشعر وعاد إلى القمار فخسر من جديد وأرهقته الديون وتراكم عليه البؤس وقادته الأحزان إلى الخمرة وإقداح النبيذ
ومع الأيام القاسية إنحرف تفكيره فظن أنه خُلق حقوداً شريراَ فصار لصاً يسطو على المنازل وشُكي إلى والده،فأمسكه الكهل وربطه إلى جذع نخلة في صحن الدار وجلده حتى بال على نفسه وخر مغشياً عليه
وعاد إلى السرقة من جديد فقبض عليه وسجن وجلد في سجن الوالي ببغداد،وكادت يده أن تقطع ذات مرة!وهدده والده بالبراءة منه ثم طرده أخيراً
بات يمشي حتى منتصف الليل وأدركه التعب فجلس متكئاً على صرة ثيابه، ثم أستلقى على رمل ناعم وبقي يهذي بكلام غير مفهوم،ثم غط في نوم عميق
نام طويلاً في مكانه ذاك حتى أيقضته شمس الضحى الساخنة،فقام وتمطى ونفض ثيابه والعرق يغطي جسمه المتين،وغمس وجهه في مياه دجلة،وأروى عطشه ، ثم أستلقى من جديد تحت ظل شجرة،وعاود النوم حتى أنحسر عنه الظل فتحول إلى موضع الظل،ونام ولم يستيقظ إلا منتصف العصر!
استيقظ والجوع والعطش يستبدان به فقام وواصل مسيره بعدما شرب من دجلة الكثير
وصل إلى إحدى القرى الواقعه على النهر، وتجول في بعض طرقها وطلب من بعض أصحاب الحوانيت إقراضه شيئاً من الطعام،فلم يعطه أحدٌ شيئاً، فمنظره الكئيب، وشعره المشعث ونظراته القاسية لم تكن تبعث على الطمأنينة، وألح في المسألة على أحدهم فنهره وطرده فخرج غاضباً وتمنى لو يحرق القرية على من فيها
ومضى مبتعداً عن القرية متوكئاً على غصن عريض0وصادف أحد الصيادين راكباَ حماره، ومعه سلة فيها سمك فسأله عن بغداد فأخبره أنها على مسيرة نهار كامل من هنا تأمل غياث بن عبد المغيث الرجل وحماره بنظرات شرسة أثارت ريبة الصياد، وقبل ان ينخس حماره ليبتعد أهوى غياث بهراوته على مؤخرة رأسه فسقط عن ظهر الحمار مغشياً عليه وبهدوء بحث غياث في ثيابه وسلب ما معه من المال وركب الحمار ومضى
عندما حل المساء توقف على الشاطئ كانت الغيوم قد حجبت ضوء القمر،فعم الظلام الدامي أرجاء المكان وأشعل نارا وشوى بعض ما في السلة من السمك وجلس يأكل بشهية مفتوحة حتى شبع وعاد إلى نشاطه ، وتمنى في هذه اللحظة قدحاً من النبيذ يذهب به عن الدنيا
كان قد بقي على بغداد مسافة ليست بالقصيرة، ومع أنه كان نشطاً إلا أنه أثر أن يكمل مسيرته في الصباح
لم يذهب إلى بغداد إلا مرتين في حياته الأولى وهو صبي في صحبة والده والثانية عندما حُمل مكبلاً وجلد هناك لقيامه بالسرقة كم هالته المدينة الكبيرة العامرة التي تعج بمئات الآلاف من البشر من جميع الأنحاء في بغداد يسهل التخفي،وتكثر الأوكار الأمنه،والأرزاق والجواري وأطيب الخمور وهناك سيجد من يعاضده في أعمال الليل وغزوات المنازل!
ظل مستسلماً لخواطره حتى إجتذب سمعه أنين خافت!! تلفت حوله فلم يرَ شيئاً فعزى ذلك إلى توهمه لكن الصوت عاد ثانية، وتتبعه غياث كان أنيناً لرجل موجوع أو مصاب أرخى سمعه مرة ثالثة ليجد الصوت منبعث من خلف كثيب صغير قريب منه فقام وذهب إلى الكثيب ليجد رجلاً في نحو الخامسة والأربعين ملطخاً بالدماء، وفي كتفه جرح بدم يابس
كان واضحاً أنه تعرض لعراك شديد فثيابه ممزقة ورأسه حاسر مشعث الشعر وكان يمسك بطنه بإحدى يديه0
ولإنقاذه حمله غياث بين يديه وأنزله إلى جانب النهر ورش وجهه بالماء وجعل يضرب خديه بخشونة حتى أستفاق0
وفتح الرجل عينيه وأدارهما في غياث ثم في الليل برعب وريبة وسأل بوجل:
- أين أنا؟وأين الجمل؟!
فأجاب غياث:
- أنت هنا على شاطئ النهر
- والجمل؟!
- لم أرَ جملاً هنا!
ثم قال يطمئنه:
-لا بأس عليك، جرحك بسيط وسيندمل سريعاً
ولم يعلق الرجل بغير الأنين فظهرت خشونة غياث وقال في ضجر:
- أنت تئن كالثكالى كأنك
ولم يكمل عبارته لأن الرجل أبعد يده عن بطنه فبان تحتها جرح غائر طويل بطول الكف!! فصاح غياث:
- ويحك يارجل أنت تحتاج إلى طبيب!!
فقال الرجل يائساً:
- أنا أحتاج إلى كفن
وسأله غياث بما يشبه الزعيق:
-من أنت؟ ومن أين جئت؟!
فقال بيأسه الأول:
-سأخبرك بما تريد لكن أرفعني قليلاً عن الأرض
واستجاب له غياث رافعاً ظهره عن الأرض فأدار الرجل عينيه المرعوبتين،ومسح بهما أرجاء المكان، وقال وهو يشير بيده التي ليست على الحرح إلى جهة من البر:
-هناك ستجد الجمل هناك لقد رأيته يذهب من هذه الناحية عندما سقطت من على ظهره
وذهب غياث إلى حيث أشار الرجلُ الجريحُ ليبحث عن جمله تجول قليلاً في الفلاة المظُلمة وهم بالرجوع وهو يشتم الرجل:
-قتله الله لم تنته مصيبتي حتى أبلى به!!
لكنه وجد الجمل ملتفاً بالظلام باركاً على الأرض يجتر ماأكله في النهار هدر الجمل عندما رآه، فأقتاده غياث إلى الرجل الذي أخذه الأعياء فنام
قذف غياث إلى النار ببعض الحطب فأرتفع اللهب متراقصاً مضيئاً المكان تأمل غياث الرجل وبدا له أنه يعرفه وحاول أن يتذكر كان دقيق الملامح مهزولاً على جانب صدغه الأيسر أثر جرح قديم،منعه بعض شعر اللحية من الظهور وعندما تذكره هزًّ رأسه!
وبهدوء وحذر تحسس ثيابه وجيوبه، فلم يجد غير بضعة دراهم، فسلبها ووضعها في جيبه وراعه أن جسد الرجل كان يفور بالحرارة!
وأحس الرجل به فاستيقظ وتكلم وهو يلهث:
-هل جئت؟
-نعم وقد وجدت جملك
-إذاً أنظر هناك ستجد قارباً كبيراً أنزل به أحمال الجمل ولنصعد إليه ونعبر إلى الضفة الأخرى من النهر، فهناك بقايا نخل وبيت صغير مهجور هيا بسرعة
-لماذا لا نبيت الليلة هنا، ونمضي إلى البيت في الصباح؟!
-لا لابد أن نكون هناك حالاً
-تبدو مستعجلاً هل هناك شيء؟!
-ستعرف فيما بعد هيا بسرعة
بسهولة وجد غياث القارب ووجده قديماً متهالكاً فحمل الرجل إليه وأبقاه مستلقياً على ظهره في قاع القارب، ويده لا تفارق بطنه،وقد عاد إليه الأنين
وعمد إلى أحمال الجمل فوجدها خرجين متوسطين معلقين على جانبي الجمل وكانا ثقيلين محكمي الإغلاق والربط
حملهما إلى القارب ولم ينسَ صرة ثيابه وحل قيود الجمل والحمار وترك لهما الحرية وبدأ يجدف مجتازاً النهر الهادر لكي يصل إلي الجهة الغربية
ظل يجدف حتى صاح الرجل فجأة:
- الماء!! الماء سيغمر القارب؟!
كانا في منتصف النهر، وبحث غياث في القارب فلم يجد مصدر الماء بسبب الظلام فجعل يتحسس بطن القارب بيديه حتى وجده فصاح بغضب:
-إنه مثقوب!كيف لم تخبرني أنه مثقوب؟!
-لم أكن أعلم وإلا لما تركتك تبحر به ربما حطمه الجمل! لم يفهم غياث شيئاً وظل يجدف بإنفعال في سباق مع المياه المتدفقة التي أبطئت بسرعة القارب، فترك غياث المجاديف، وجعل ينزح المياه من القارب بدلو وجده
ومع الوقت عجز عن السيطرة على الماء فجلس يستريح ويدلك زنديه القويين
فهتف به الرجل ملهوفاً:
-لاتتوقف أنا لا أستطيع النهوض وستغرقني المياه وأنا مستلقٍ قبل أن يغوص القارب!
فقال غياث في برم:
-قبحك الله وماذا أصنع بك؟ كل ماأستطيع فعله أن أخفف من حمل القارب حتى يسحل التجديف
وقذف بالصناديق والشباك والحبال إلى جوف النهر وتناول احد الخرجين بسرعه وقذف به إلى الماء ومد يده إلى الثاني فصاح به الرجل الجريح:
-لا إنه الذهب !!؟
كانت صيحته منكره جعلت شعر غياث يقف!
وضم الرجل الخرج الثاني إلى صدره كأنما يريد حمايته وخاطب غياث بغضب وأسى:
-لماذا قذفت به ياأحمق؟!فقال غياث بدهشة:
-أنت لم تخبرني أنه ذهب لقد ظننته من سائر المتاع!
وعاد ينزح المياه من القارب بالدلو في صراع مع النهر ثم يجدف وهو ينقل بصره مابين قعر القارب، وصفحة النهر الداكنة المخيفة ثم حانت منه إلتفاته إلى الرجل فوجده يذرف دموعاً غزاراً كان الشعور بالعجز والخسارة قد غلبه ثم سمعه غياث يهذي:
-طعنت وقاتلت من أجله وهانذا أخسر نصفه عذبك الله ياعدي كما عذبتني!
بصعوبة وصلوا إلى الضفة الأخرى من النهر، وحمل غياث الرجل إلى حيث يوجد النخيل والبيت وكان النخيل قليلاً متقارباً وخاوياً وبداخله قامت حجرتان متداعيتان من الطين وأمامهما عريش صغير من جريد النخل
وضع غياث الرجل على الأرض لكنه صاح:
-بالداخل بداخل الغرفة فلا طاقة لي بالبرد!
كان الجو معتدلاً لكن الحمى كانت تفترس الرجل فحمله غياث إلى الداخل وهو متشبث بالخرج المتبقي وأنزله في الحجرة المظلمة وهو يئن ويهتف لاهثاً:
-نار أوقد ناراً الجليد يكاد يقتلني أنا محموم!
ثم غاب عن رشده، وعاد إلى الهذيان وإلى شتيمة عدي وأشخاص أخرين حنظلة بكرة بن مرة زليط
وسقط الخرج من يده محدثاً صوتاً أثار فضول غياث الذي قام وجمع بعض الحطب وأشعل ناراً أضائت أركان الحجرة ثم عمد إلى الخرج فتناوله وفتحه ليطلق صيحة مكتومة عندما وجده يكاد يفيض بالذهب الخالص!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://albetoul.forumalgerie.net
البتول
Admin
Admin
البتول


عدد المساهمات : 249
نقاط : 122472
تاريخ التسجيل : 26/09/2013
الموقع : الفردوس الأعلى إن شاء الله

رواية السجين يهرب... Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية السجين يهرب...   رواية السجين يهرب... Icon_minitimeالجمعة يناير 31, 2014 12:45 am

[size=24]الفصل الثالث ..

الذهب بغيته00شرط سعادته00إبتسمت له الدنيا فجأة00أرتمت الثروة والمجد تحت قدميه بسهولة00هذا المال غنيمه بارده سيناله بلا مخاطرات ولامتاعب00فالسرقة مهنته00 والرجل الجريح عاجز لا يكاد يقوى على الحراك، وليس هناك رقيب ولا شرط00فليأخذ هذا الخرج الممتليء وليرجع لإستخراج الثاني بعد حين00 ليقتنص الفرصة ولينهي شقائه إلى الأبد00 وسيجد بعدها مئة جواب لمن يسأله عن ثرائه المفاجيء!واحس بتصاعد أنفاسه وتلفت00ثم تفكر ملياً وأعاد المال إلى مكانه00 ووجد نفسه متردداً في سلب الرجل، مع أنه سلبه قبل قليل بعض دريهمات!
حرك النار فتصاعد لهبها00 تأمل هذه الثروة التي تربض عند قدميه كالكلب الوفي00 ماذا لو أخذها ولاذ بالفرار وترك الرجل لمصيره يموت بهدوء00 لقمة سائغة00 فهو يسطو على المنازل ويقتحم الأخطار من أجل أشياء قليلة تضيع منه في صباح اليوم الذي يليه00 والآن وجد ما يكفيه مدى عمره كله،فلماذا يترك هاذه السعادة القابعة في حقيبة هاذا الجريح العاجز تضيع منه؟00إنه في الغالب سيموت، فقد تلقى في جوفه طعنة نافذة00 وهكذا لن يثقل كاهله بقتله00 فلا مجال للتقاعس والوجل؟!
وتناول الخرج الثقيل مرة ثانية00 لكن شكوكه عادت فأرجع الخرج إلى مكانه0
لقد علمته التجارب أن يكون حذراً ويفكر في كل شيء قبل أن يقدم على عمل جريء كهاذا0 وقد تحصلت هنده قناعة تامة أن لهذا الذهب الوافر طلاباً غيره،وأنهم لابد أن يتتبعوه أينما ذهب00 فما زالت تطن في أذنه كلمات الرجل وهو يهذي ويقول: إنه طعن من أجل الذهب ثم خسر نصفه0 وتلك الأسماء التي كان يرددها00حنظلة00زليط00عدي00 ولاشك أن الرجل لص مثله00 فقدرآه يوماً أو شخصاً يشبهه! والأشخاص الذين ذكرهم هم أعوانه أو أعدائه0 ولهاذا قرر أن يحتال على الرجل ليعرف قصته، ويكون ذلك أدعى للأمن وأخذ الحيطة0 وخطرت له فكره00
أخذ الخرج محاذراً أن تحدث محتوياته صوتاً وحفر حفرةً صغيرةً في جهة من الحجرة، ودفن الخرج فيها وغطاه بطبقة رقيقة من التراب،ووضع صرة ثيابه قوقها وسوى الموضع ، ثم قام إلى الخارج ورفع رأسه وملأ رئتيه من الهواء الندي، وجاء ببعض الحطب وقذف به إلى النار التي كادت تخمد، وعلى ضوئها طفق يتفقد محتويات الغرفة00 ووجد شِباك صيدٍ قديمةٍ وسلال فارغة، وحبال وثياب وخرق بالية، ووجد صندوقاً به سيف صديء، ورماح وسماح، وكان الغبار يغطي كل شيء0 ثم ترك الحجرة بعدما ألقى على قدمي الرجل المرتعش بعض الأغطية0 وجمع المزيد من الحطب والأخشاب، ثم عاد ليجد الرجل قد أستيقظ ووجده يكاد يجن فرقاً على حقيبته، وعندما وقعت عيناه على غياث سأله بفظاظة وريبة:
-أين أموالي؟
-هل تقصد الخرج؟
-نعم00 هل رأيت أحداً جاء إلى هنا وأخذها؟
-كيف يأتي أحد ليسرقها ولا أمنعه؟!
-إذاً قل لي أين ذهبت؟
-لقد استوليت عليها أنا0
-أنت؟
-نعم0
وتوقع غياث أن يلعنه الرجل ويغضب ويحاول القيام أو يقذفه بأي شيء00 لكن شيئاً من ذلك لم يحدث!! بل تغيرت سحنته، وتكدرت ملامحه إلى هيئة مهزومة ساذجة00 وحزينة بشكل كاد يبعث الأسى في نفسه!!
لقد أُتي من مأمنه، وسُرق من الشخص الذي كان يظن أنه منقذه0 وعاد يستفسر بطريقة أراد لها أن تكون ثابتة متوعدة:
-بأي حق تأخذ مالاً ليس لك؟!
-وليس ل كانت أيضاً!
كيف تقول هذا 00 إنها أموالي؟!
رد غياث مصطنعاً الثقة:
-لقد عرفتك ساعة نظرت إليك00 لقد أخذت هذه الأموال ظلماً وعدواناً00 وليست هذه أولى أعمالك فأنا أعرف عنك الكثير!
لم يكن غياث متأكداً مما يقول، وكان مستعداً لن يتنازل عن شكوكه لو إستمر الرجل في إنكاره غير أن استسلام الرجل السريع أدهشه0 حيث قال الرجل مناوراً:
-أنت لا تعي شيئاً مما تقول00 أنا أسمي شهاب الدين وأنا تاجر من تجار حلب وقد داهمني الصوص عندما كنت00
-بل أنت لص من لصوص العراق واسمك مروان!
وتقلبت عينا الرجل مبهوتاً00 وحدج غياث بنظراته المرعوبة المدهوشة في صمت وحنى رأسه، وجعل يتحسس جرحه بيده الملطخة بالدماء اليابسة وخاطبه غياث:
-لقد رأيتك أول مرة في سجن الوالي من أجل جبن سرقته وتدعي الآن أنك تاجر وأن لك أمولاً!؟
واستقام الرجل في جلسته لاهثاً بعدما تجلى عنه الكثير من وطأة الحمى، وأسند ظهره إلى الجدار وقال بصوت هاديء مستسلماً:
-إذاً فأنت تعرفني يافتى؟
فقال غياث معلناً عن نفسه بصراحة:
نعم أعرفك00 فجميعنا أصحاب مهنة واحدة00 وعندما كنت تهذي فهمت من كلامك ما يمكن أن تكون وقد سمعتك تهذي بإسم حنظلة وعدي وبكر بن مرة وزليط0
وعند ذكر عدي تمتم00"مروان"وهو يخاطب نفسه:
-عذًبك الله يا عدي00
ثم قال لغياث بسذاجة ناسياً عجزة:
-ستشاركني هذه الغنيمة 00 سأهبك نصف المال مقابل أن تساعدني00؟
فأبتسم غياث مستغرباً00 كيف أصبح هذا لصاً فاتكاً ثم قال بمكرٍ مستجراً مروان إلى الكلام:
-حسناً00 وكيف أساعدك؟
-تركبني على ظهر الجمل وتدفع بي إلا سبيل النجاة0
-سأفعل00ولا أريد نصف المال،فهذا كسب لك وحدك، وإنني من القناعة بحيث يكفيني القليل إذا أخبرتني كيف سلبتَ المال00 ولك أن أساعدك؟
-ومن يضمن لي أنك لا تخونني؟
-لاخيار لك00فأنت عاجز00 وإذا لم تستجب لي قمت وتركتك!
- والذهب؟
رد غياث محاولاً كسب ثقة مروان:
-الذهب لك إلا ما تصدقت به عليً،فما كنت لآخذ ما حصلت أنت عليه بجهدك00
ورفع إلا فم مروان قدحاً كان قد ملأه من النهر00 فشرب وقال:
-سأحكي لك0
وسكت برهة يتحسس جرحه ثم قال بنكد:
-هذا المال لتاجر ثري، يسكن بغداد وهو من أهل فلسطين يقال له ذاهب المقدسي، وكان متصلاً بالخلفاء والولاة وقد جمع من الأموال الكثير وكانت له ضياع ودور وعقار0
وقد وشى به بعضهم عند الخليفة فجفاه وعنَّفه،وأظهر له العداوة فضاقت عليه الدنيا وكره بغداد وعاف المقام فيها، واعتزم الرحيل إلى بلاده، والتحول إلى موطنه الأصلي فلسطين فأرسل أولاده وأسرته إلا هناك مع قليل من المال على أن يلحق بهم بعد أشهر0
وطفق يبيع ضياعه وعقاره، وكل ما يملك وأشترى هذا الذهب الذي رأيته، وحمل أمتعته وأمواله على بعض الجمال00 وأستأجر خمسة عشر فارساً لحراسته مع خمسة من عبيده0
وكان من أصدقاء المقدسي رجل يحقد عليه ويحسده أسمه حنظلة، وكانت قد جرت بينهما المعرفة في مجلس الخليفة ولم يكن ذاهب يخفي عن حنظلة شيئاً من أموره0 فجمع حنظلة تسعة من الفتاك وأنضممت أنا إليهم مع أخ لي، وأتفقنا على أن نستولي على الأموال ونهاجم الرجال ليلاً00 ولم نكن على قلب واحد ولكن جمعتنا حمرة الذهب0 وكان المقدسي صاحب حيطة وتدبير، فلم يخبر أحداً بمسيره ولا بما تحمله جماله0 ولم يكن يشك في إخلاص حنظلة، لذا علمنا بكل شيء وتيسر لنا رصد الرجال ومتابعتهم 0 وأختبأنا لهم ليلة البارحة في بعض الطريق، ثم أنقضضنا عليهم متلثمين،كانوا أشد منا قوةً وأكثر عدداً لكن مفاجئتنا لهم ساعدتنا على غلبتهم فقاتلناهم قتالاً شديداً بالنبال والسيوف وقد أخفى زعيمنا حنظلة نفسه،فلما رأى كفة القتال تسير لصالحنا أنضم إلينا0وبدا لي أنه لن ينجو من رجال المقدسي أحد،بينما لم يقتلْ منا سوى أربعة ،وفرَّ بقية الفرسان إلى بعض الصخور طلباَّ للنجاة فطاردهم رجالنا لإفنائهم وكان هذا رأي حنظلة حتى لا يعود أحدٌ منهم إلى بغداد فيعلم الناس بنا0 إنه لئيمٌ ويحب الدماء ويقتل بلا دافع للقتل!وقد ساءني من حنظلة أنه لم ينضم إلينا إلا بعد أن هزمنا القوم، وأنه كان يحافظ على نفسه،وقدرت أيضاً أن هذا الذهب لو قُسَّم بيننا فلن ينالني منه ما أصبو إليه ، وكل هذا جعلني أتسلل في غمرة الهياج والبحث عن الجمل الذي فيه الذهب، وأهرب به تاركاً الرجال يتقاتلون مستعيناً بالظلام والغبار00 وسرت قليلاً وظننت أني فزتُ بالمال،لكن أحد أعوان حنظلة وأسمه عدي اعترضني وقد عرف مقصدي وبدلاً من أخفي فعلتي تصرفت بحماقة فصحت به إن الذهب لي وحدي0 فعلقت به وأصابني في بطني ورأيت أخي يأتي مسرعاً، وقد فهم ماحدث فأنضم إليَّ والتحم مع الرجل في مبارزة وأمرني أن أهرب بالجمل00وهربت00 ممسكاً بجرحي ممتطياً ظهر الجمل00 وكنت أعرف موضع القارب فتحاملت على جرحي وعالجت الجمل حتى برك في جوف القارب00 وقطعت به النهر وهذا ما زاد من آلامي ثم أنهضت الجمل وركبت عليه، لكني بدأتُ أفقد رشدي فسقطتُ من على ظهره، وغاب عقلي حتى جئتني رأنت0


الفصل الرابع

بعد سماع القصة تأكد لغياث بن عبد المغيث صدق توقعه، وأن الذهب ليس غنيمة باردة00بل هناك فئتان تصطرعان عليه مروان وشقيقه وحنظلة ومن تبقى من رفاقه0
وقرر في نفسه أنه يجب المسارعة بالرحيل فلابد أن القوم سيقتفون أثر مروان ويأتون إلى هنا00فيجب أخذ الخرج والسباحة إلى الضفة الثانية من النهر،ثم ركوب الجمل والهروب00 وفكر كيفية قطع النهر سباحة والخرج ثقيل وليس هناك قارب غير ذلك القارب المعطوب الذي ربما أستقر في المياه الأن00وأهتدى إلى طريقه00وأعتزم تنفيذها00سيفرغ قربة الماء ثم يملأها بالهواء ويربطها إلى خرج الذهب، ويسهل بذلك جذبها معه خلال السباحة0
ودبت فيه الحيوية، وقام لتنفيذ فكرته والمسارعه بالهروب00لكن ذلك أصبح مجرد أمنية، فقد تناهى إلى سمعه صوت فرس راكض0 فخرج ليتحقق من الصوت فرأى فارساً طويلاً بسيف طويل ينهب الأرض باتجاه البيت0فعاد إلى الداخل وهتف بمروان:
-لقد قدم أحدهم0
فصاح مروان برعب:
-لقد عرفوا مخبأي00 إنه الموت!!
وتعاقبت على وجهه الألوان00 وأيقن بالهلاك ولما رأى غياث تغيُّر سحنته طمأنه وقال بنبرة صادقة:
-لن يصلوا إليك وأنا هنا00 فأنا لست جباناً ولا خائناً0
وكل الذي تمناه في هذه اللحظة لو أنه سارع مع مروان بالرحيل ولم يتلكأ00 وأسر في نفسه الندامة00لم يكن من طبيعته الجبن00 لكنه أراد أن يتجنب قتالاً هو في غنى عنه0
وفتح أحد الصناديق وأخذ أجود الحراب الموجودة وأختبأ خلف الباب، وسمع الفارس يترجل عن فرسه ويربطها في الجهة الخلفية من النخيل ويتقدم إلى الباب،وتوقع غياث أن يجهز على مروان ساعة دخوله00 لكنه بخلاف ذلك أنكب عليه بلهفة يتحسسه ويقول مبتهجاً:
-مروان!! هل أنت حي؟!
وصاح مروان مدهوشاً:
-سعيد أخي!؟
-كيف جرحك؟
-على شر حال!
-لقد تسرعت فيما فعلت00 ولو أخبرتني بنيتك لأخذتُ أهبتي ولما جرحت0
-لقد طرأت علي الفكرة فجأة، فسارعت إلى تنفيذها!
-هل تألمت من الطعنه كثيراً؟
-لقد تمنيت الموت من شدة ما وجدت!
وبرفق أخذ الفارس يد أخيه ورفعها عن بطنه ، ولم يرَ غياث تعابير وجهه لأنه كان ملقياً إليه بظهره00 لكنه سمعه يقول متكدراً:
-إنه جرح كبير!!
ثم رد يده إلى مكانها وقال يطمئنه:
-ستشفى وتنجو0
-أشك في النجاة00 لقد سال من دمي الشيء الكثير00لكن قل لي كيف تركت الرجال؟
-لقد قُتل ذاهب المقدسي00تعمَّد حنظلة قتله بسيفه00
-إنه لئيم وحقود0
-وقتل جميع رجاله00ومات منا أربعة00 أما أنا فقد قتلت عدي الذي أعترضك،وسلبته فرسه وهربت إليك00لقد علمت أنك ستكون هنا00وتأكدت من ذلك عندما رأيت ضوء النار من نافذة الحجرة0 لكن البقية علموا بما فعلت من الهروب بالأموال،وعلموا أني أنضممت إليك00 وهم في أثري الأن ويلزمهم بعض الوقت ليصلوا إلى هنا0 فهيا سأحملك وسأردفك على الفرس00 ولنسارع بالنجاة بما غنمنا00فلا طاقة لنا بهم0
وسكت برهة يلتقط أنفاسه ثم سأل مروان بلهفة:
-أين الذهب والجمل؟
فأجابه مروان يشير إلى ذقنه إلى غياث الذي برز من مخبأه:
-لقد استولى عليه هذا الفتى00!
وقفز سعيد كالملدوغ لدن سماعه بوجود شخص آخر في الغرفة وأستل سيفه وواجه غياث0
كان طويلاً00 نحيلاً00 وكان أصغر من مروان بكثير00 وأكثر وحشية وحذراً00 وهتف في خشونة:
-كيف تسلب أخي ماله00 وهو جريح عاجز؟
وقبل أن يقول غياث شيئاً صاح مروان:
-دعه ياسعيد00 لقد أخبرته بكل شيء00 مقابل أن يرجع الأموال، ويساعدنا ويأخذ بعض الذهب مكافأة له0
فنهره سعيد محنقاً وقال:
-ما زلت على غبائك يامروان!
ووجه كلامه إلى غياث:
-أين الأموال؟
فرد غياث ببرود:
-هي أموال أُغتصبت مرتين00 فما الذي يمنعها أن تؤخذ مرة 00؟
-إذاً فأنت تطلب القتال؟
-كما تشاء0
وهجم سعيد على غياث الذي كاد ينخسه بطرف حربته00 لكن سعيد كان أسرع فأطارها من يده بجنب سيفه، فدهش غياث لهذه المهارة، وقفز إلى ركن الحجرة،والتقط جذعاً قصيراً ومتيناً وواجه به سعيد الذي قال:
-إنك لا تعرف سعيد حتى تواجهه بخشبة؟!
-وأنت لا تعرف غياث حتى تتحداه!؟
وهجم سعيد على غياث وأهوى بسيفه عليه،فتدرع غياث بالغصن فعلق السيف به0
وفيما حاول سعيد أنتزاع سيفه00 ركله غياث برجله في خاصرته بشَّدة فسقط يتلوى ألماً0
وأخذ غياث السيف وبرك على صدره كالجمل، لكنه لم يتمكن منه لأن سعيد قبض على معصميه وضغط عليهما بقوة رهيبة حتى أكتستا لوناً أزرق فأسقط غياث السيف رغماً عنه، فحاول سعيد إلتقاطه وهو يمسك بغياث لكن يد مروان كانت أسرع فأخذ السيف0 وصاح به سعيد:
-دعني أقتله!
فقال مروان:
-إن له عليَّ معروفاً00 فقد أنقذني وعبر بي النهر ولولاه لكنت ميتاً الآن0
وتنازعت خواطر مضطربة فؤاد سعيد، بين ترك غياث لإحسانه أو الإجهاز عليه00لكن نزعة الشر غلبته، فهتف بمروان وهو يص على أسنانه:
-أعطني السيف فلا مكان هنا إلا للقتال والغلبة00 وهو الذي طلب ذلك؟
فقال مروان:
-إذا قتلته ضاع منا المال إلى الأبد،فقد أخفاه في مكان لا يعرفه إلا هو0
ولما رأى غياث هذا الجدل حول حياته أخذته الأنفة00 فتناهض من تحت خصمه ثم قبض عليه من ثيابه ووقف وقد رفعه عالياً حتى لامس ظهره سقف الحجرة المنخفض وصاح:
-لست في حاجة إلى رحمتك ولا رحمة أخيك!
ثم قذف به إلى الأرض في سقطة عظيمه صرخ منها سعيد00 وهنا وقف مروان على ركبتيه على غير عادته00 وهو يطل من النافذة الصغيرة، وهتف في وجل عظيم:
-كفى عراكاً00 لقد جاءوا00 حنظلة ورفاقه!


الفصل الخامس
التصق الشابان عند النافذة كأنما نسيا عداوتهما وأمعنا النظر في الظلام ليريا خمسة أشخاص على خيولهم وهم يسرعون تجاه النخيل والبيت الصغير، وقد أثارت أقدام الخيول خلفهم سحابةً من الغبار00والتقت أعين الثلاثة في وجوم وقال مروان:
-لقد تأخرنا في الهرب، فلنتفق أيها الفتى لحين النجاة من هؤلاء وإلا هلكنا جميعاً!
وقال سعيد في خشونة:
-نتضافر لقتالهم00ثم نسوي ما بيننا فيما بعد0
فقال غياث بشجاعة وبلا تردد:
-قبلت0
وقد قبل على الفور هاذا الإقتراح،لأنه من الخير له أن يجابه سعيد لوحده أو برفقة شقيقه على أن يحاول الفرار بالذهب ثم يجابه مطاردة هؤلاء كلهم00ورأى أن من الصواب أن يقضي على اللصوص بمعاونة سعيد ثم يقضي على سعيد فيما بعد00 وحدث نفسه أنه لن يواصل القتال بل سيهرب إذا سنحت له فرصة آمنة،وإذا سلم جسده من طعنات اللصوص!
واقترب الرجال، ونزلوا عن خيولهم ماعدا واحد لم يرَ غياث وجهه بسبب الضلام ولكنه متأكد من أنه حنظلة زعيم هؤلاء الفتاك، لأن شارات السيادة والسيطرة تفيض من حركاته وتصرفاته وخضوع جماعته له0
وسأل سعيد بغيض مكظوم:
-أين وضعت الأموال؟
فرد غياث بفضاضة:
لا شأن لك0-
وسارع مروان يقول لأخيه: لقد عبرت النهر بالجمل على ظهر القارب، وسقطت قريباً من الضفة الأخرى حتى جاء وأنقذني ثم آثرت الإحتماء بالبيت والرجوع،فرجعنا بعدما أنزلنا الخرجين اللذين فيهما الذهب إلى القارب وكاد القارب يغرق بنا00فقذف هو بأحد الخرجين لتخفيف حمل القارب، وقد كان يحسبه بعض المتاع00أما الخرج الثاني فقد أستولى عليه وأخفاه0
وهنا برقت عينا سعيد الشريرتين وسأل غياث:
في أي موضع من النهر أسقطت الذهب؟
فأجاب غياث بهدوء وعبوس:
-لا شأن لك0
فتركه وسأل مروان عن الموضع فقال:
-لا أدري كنت محموماً00 وكنت مستلقياً في القارب ولا أرى غير السماء0
وسكت سعيد على مضض0وأخذ غياث الحربة وأعطى مروان قوساً وسهماً،وهو يشك في قدرته على إستخدامهابينما أستعد سعيد بالسيف00وسمعوا أحد اللصوص يقول:
-سعيد هنا00وهذه هي الفرس التي هرب بها0
وصاح الرجل الذي لم ينزل عن فرسه يخاطب سعيد:
-أخرج ياسعيد00 فإن شئتما أعطيتماني الذهب وتركت لكما أرواحكما0
وألتفت غياث إلى مروان قائلاً:
-كيف عرفوا أنكما تختبئان هنا؟ فقال مروان:
-هذا مكان قديم لنا كنا نجتمع فيه0
وصاخ الرجل ثانية:
-ألا تسمع!!أخرج قلت لك!
وتمتم سعيد:
-هذا حنظلة إنه غاضب للغاية!
وسأله غياث مستفزاً:
-هل تخاف منه؟
-قَّبحك الله وأياه00 إنه لا يساوي أظفري!
-هل هو مرعب؟فأنت تبدو مرعوباَ؟!
أصمت!-
-أنت من يصمت00 فأنا لست عبداً لك!
ورد سعيد عليه بلطمة قوية00 كافأه غياث بأشد منها00 وكادا يقتتلان ثانية لولا تدخل مروان:
وعاد حنظلة يصيح بغضب:
-سيحل عليك غضبي يا سعيد00إنك رجلٌ واحدٌ ونحن خمسة فلا تورد نفسك موارد الهلاك00لقد خنت ماأتفقنا عليه وقتلتَ أحدَ رجالي، وساعدت هذا الأحمق!
إلتوت شفتا مروان حقداً عندما سمع حنظلة يشتمه0
وسكت حنظلة ليسمع جواباً،فلم يسمع سوى هدير النهر فأستشاط غضباً وترجل عن حصانه وعاد يصرخ بنفس غضبه:
-أخرج00أعرف أنك هنا00 لقد توقعت أن تجيء إلى هذا الجحر0
ولم يتمالك مروان نفسه فرفع صوته مستكبراً على عجزه:
-ارجع ورائك ياحنظلة00 إنه الموت!
ورغم الأخطار فقد أبتسم غياث من تهديد مروان وهو لا يكاد يقف على قدميه!
بينما قال حنظلة ساخراً:
-هذا صوت مروان!!بطن مثقوب ولسان طويل!القتل لمن خان أصحابه0تقدموا وأئتوني بهذا الشقي0
وشهر اثنان من رجاله سيفيهما وتقدما ناحية الباب0
لم يسيرا غير القليل حتى ذهل الصوصُ جميعاً،فقد أنتقلت حربة من نافذة الغرفة الصغيرة لتستقر في فخذ أحد الرجلين فصرخ صرخة مكتومة وسقط على ظهره يتلوى من الألم،والحربة الطويلة مرتكزة في فخذه كالعلم0 وصاح صاحبه:
-لقد أُصيب زليط!!
ثم جعل يجره بابطيه مبتعداً به0وقاس الصوص المسافة بين الرجل والنافذة فكانت بعيدة00 تدل بوضوح على رامٍ ماهر!مما حدا بأحدهم أن يهتف مدهوشاً:
-أهلكني الله إن لم يكن في الغرفة غير مروان وأخاه!!
ورد عليه الآخر:
-صدقت00فمروان جريح00وسعيد لا يجيد غير السيف!
ولم يخُف سعيد إعجابه فقال لغياث بعبوس:
-إنك رامي حاذق ياغلام00لقد أفزعتهم!
فقال غياث:
-لو شئت لو وضعتها بين نهديه00 ولكني لا أحب القتل!
فقال سعيد بحنق:
-يجب أن تحب القتل00 وإلا فماذا ستفعل إذا دخلوا علينا بعد قليل!؟
-إذا وقع ذلك فسأعرف ماذا أفعل0
ترجع اللصوصُ بعيداً عن الحجرة يتشاورون ويعالجون رجل صاحبهم00لقد حسبوا أن البيت الصغير مملوءٌ بالرجال0ثم جلسوا على الأرض في شيء من الحذر والترقب0 وقال سعيد وقد طمأنه وجود هذا الشاب الماهر بجانبه:
-إنهم ينتظرون الصباح 00سيرون منَّا مالا يسرهم0
مضدت مدة، وأفرغ غياث في جوفه قليلاً من الماء، ونظر إلى مروان الذي أستند إلى الجدار ومد رجليه00وقد سطعت في عينيه نظرة العجز والحيرة فأقترب منه ورفع القربة إلى فمه00 فأنتزعها مروان بخشونة من يده وهو يقول:
-سأشرب بنفسي فلست مقعداً ولا عاجزاً كما تظن!
وأبتسم غياث من أحد جانبي فمه فيما أضاف مروان وهو يمسح الماء عن لحيته!
-لاتبدو شريراً يافتى!؟
-ولِمَ البخل ببعض الماء00 والموت يحيط بك00 والرجال يطلبون دمك؟
-يطلبون دمي!!لم يبقَ لهم إلا القليل منه!
-لا أظن ذلك00فإن العافية قد بدأت تسير فيك00دعني أرى الجرح0
وبرفق رفع يد مروان عن الجرح،وشق الثوب من فوقه ثم مسحه بخرقة وبعض الماء00 وأزل الدماء المتيَّبسة حوله00كان جلد بطنه مشقوقاَ بطول الكف00 وكان محاطاً بالزرقة00وتأمله غياث ثم قال بسرور حقيقي:
-الطعنة التي أصابتك على جلد البطن00ولم تنفذ إلى الأحشاء!
ولو أسرعت إلى الطبيب وخاط بطنك لنجوت00
فقال مروان بيأس:
-الطبيب!! وأين الطبيب وأنا في هذا الموضع؟!
وأطرق غياث برأسه إلى الأرض متأملاً ثم قال لسعيد:
-هل تظن أن يسمحوا له بالرحيل؟
-كيف يسمحوا له أن يرحل سالماً،وقد قتلت أنا صاحبهم وجرحت أنت الأخر؟
-حتى ولو أعطيناهم بعض الذهب؟
-ويلك لن ينالوا منه قطعة واحدة
-حتى ولو كان في ذلك هلاك اخيك؟!
وأحس سعيد أن غياث أراد أن يفضحه00فسكت وقد طوى نفسه على حقد مكتوم0وبعد مدة أطل غياث من النافذة الصغيرة، وخشي إنبلاج الصباح ففكر ملياً00ثم قال لمروان مبهوجاً:
-لقد وجدت طريقةً لإخراجك من هنا00سنثقب جدار الحجرة الثانية من الخلف ثم تتسلل من الثقب بهدوء وتركب فرس سعيد وتهرب00
-وكيف أهرب وهم يتربصون أمام النافذة والباب؟
إنهم أمام النافذة والباب لكن الجهة الخلفية للبيت لا يرونها فالنخيل يسترها00وهي التي تقف خلفها الفرس وسيساعدك الظلام في الهروب0
-أخشى أن تفشل خطتك00فيدركونني ويقتلونني00؟
-ذلك خير لك من البقاء هنا00وعليك المحاولة00 فإما أن تنجح وتهرب وإما أن يجتزَّوا عنقك بسيوفهم0
بدون أن ينتظر موافقة أحد شرع في نقب الجدار بأحد الرماح وسعيد يراقب اللصوص0
ولما قارب الضياء على الإنبلاج كانت الثغرة قد أُنجزت وربط غياث بطن مروان وشدَّه وأعطاه قليلاً من الماء وقال له:
-هل تستطيع ركوب الخيل؟
-لا أدري00
-إذا ركبت حاول أن تتماسك، وتتحامل على جرحك كي لا تقع0
سأحاولُ0
وأخرج غياث السيف القديم من الصندوق وأمسك الحربة في يده،وبدأ الأستعداد لتهريب مروان من البيت0 لكن ما وقع لم يكن في الحُسبان،فقد عمد رفاق حنظلة إلى العريش الصغير وأشعلوا فيه النار من أجل أن تحاصر اللذين بداخل الحجرة وتضطرهم للخروج00وأرتفعت ألسنة اللهب00وأضاء لها المكان، وعلقت النار في باب الحجرة المتداعي ثم أشتعلت في السقف كادت الحرارة والدخان تخنقهم،وهتف مروان كاظماً صوته حتى لا يسمعه اللصوص:
-ساعدوني على الخروج وإلا أحترقت!
ثم زحف وأدخل رأسه في النقب ودفعه غياث إلى الخارج وتابعه وهو يمشي راكعاً يتخفى عن أعين مراقبيه وكي لاتشتد عليه آلامه0ورآه يصل إلى الفرس المربوطة التي كانت تصهل وتحمحم،وقد أهاجتها رؤية النيران،ثم ركب بعد محاولات مضطربة ممسكاً بطنه وأنطلق مبتعداً00 وشك غياث في بقائه المدة الكافية ليصل إلى بغداد0
ألتجاء غياث وسعيد إلى الحجرة الثانية هرباً من الحرارة، بينما أقتحم أربعة من اللصوص الحجرة الأولى المشتعلة00 وكان أجرأهم زليط الذي تقدم وهو يعرج رابطاً فخذه بلفافة وقد لاحت في عينيه شهوة الإنتقام00وبرز لهم سعيد وغياث وتشيَّم غياث أن يقاتل صاحب اللفافة لعاهته فتركه لسعيد الذي قضى عليه في لحظات وتراجع غياث قليلاً وشدَّ أصابعه على الحربة ثم قذفها بعنف لتستقر في جوف أحد الثلاثة وتصرعه00ثم تقدم بالسيف القديم، ونشب بين الرجال قتال ضار زاده عنفاً ذاك اللهب الذي عمَّ أجزاء السقف وأصبح يتساقط عليهم من الأعلى،وتحامل غياث على صاحبه فصرعه وبقي سعيد ملنحماً بآخر الرجال00وتساءل غياث عن حنظلة0
كانت صرة ثيابه في زاوية الحجرة الثانية، وتحتها خرج الذهب مواراً بالتراب00 وقاس غياث بعينيه بين الباب وبين كنزه المدفون،وكانت عينا سعيد تحاصره وهو يصارع خصمه على الأرض00وبسرعة أنتزع غياث ثيابه وولىَّ هارباً إلى الباب،لكن جزءاً من السقف إنهار وسدَّ الباب0وصاح سعيد بالرجل الذي كان يعتليه:
-الأموال!!إنه يهرب بالأموال!
وظنها الرجل خدعة فلم يتركه، وتصاعد الغبار والدخان ولم يعد أحد يرى شيئاً،وأنطلق غياث إلى حيث النقب وخرج منه وهو يتنفس الهواء النقي00ويتمنىساد أن تطول معركة الرجلين00 ومضى إلى أحد الخيول التي كانت ترعى الحشائش على حواف النهر وقد تفرقت بعد مقتل أصحابها00وركب أحدها في عجلةٍ وهو يتلفت حذراً باحثاً عن الرجل الخامس!!


الفصل السادس

ثم أنطلق وبانت تباشير الفجر الأولى إلى المدينة الكبيرة00 إلى بغداد0


بغداد00عاصمة الخلافة00جامعة أشتات البشر00الفرق شاسع بينها وبين الممرة00هنا يسهل الإكتساب والعمل الملتوي بطمأنينة00مئات الآلاف من الناس تروح وتغدو00وقد استقبلت المدينة الواسعة غياث بن عبد المغيث بغير الإستقبال الأوول،فقد جاء الآن تاجراً ثرياً00رفيع القدر ولم يجيء ليجلد ويسجن!
لدى وصوله كان أول شيء فعله هو الإتجاه إلى سوق البزازين وأصحاب القماش00وأشترى حلة ثمينة00وعمامة ضافية00وجبة وسراويل فاخرة،وتنكر بزي تاجر،وأستأجر داراً صغيرة حصينة وأخفى كنزه فيها ،وأشترى طعاماً وأكل بشهية عارمة00كان فائق الحيوية والبهجة00سعيداً بالنصر الذي أحرزه00 مسروراً بهذه الثروة التي آلت إليه،بعدما قتل في سبيلها ملا يقل عن سبعة وعشرين رجلاً!!
خرج إلى الأسواق والأماكن العامة00وكان يجلس في مواضع قصَّية،يتفرس في وجوه الغادين والرائحين،يلمح وجه مروان أو سعيد أو ذلك الذي كان يقاتله في الغرفة عندما هرب00وتمنى لو يعرف عن حنظلة شيئاً00وهل هو الذي أختفى أم كان ضمن الذين قتلوا داخل الحجرة؟ إن الذي بقى حياً من هؤلاء الأربعة حتماً سيأتي إلى بغداد00ولكن من الصعوبة إيجاده في مدينة كبيرة كبغداد تحوي العديد من الأجناس!
الصراع لم ينته بعد00 وإن من بقي من الرجال سيجدّون في طلبه لا محالة 00 فلابد من تصفيتهم جميعاً بأي طريقة00 وكان أكثر ما يهمه سعيد وحنظلة،فهما أوفر شراسة وخطرهما أكبر 00 وقد سرَّه أنهما على غير وفاق، وأن العداوة مستحكمة بينهما00 أما مروان فلم يكن يخشاه كثيراً لضعف رأيه00ولأن كسب جانبه سهل00وقليل من المال يكفي لشراء سكوته0
وطال إنتظاره، ولم يظفر بمن يبحث عنهم00 وأنتظر اليوم الثاني فلم يرَ أياً من الأربعة00وأمضى أسبوعاً00ثم ثانياً وهو يتردد على الأماكن التي يتوقع أن يراهم فيها، وحدثته نفسه أن مروان وسعيد ربما هلكا0 ولكن أين الآخرين؟00 ودب اليأس إلى قلبه00 وكان يقطع وقته بتسليته الوحيدة00 إحتساء الخمور0
وتاقت نفسه إلى العمل وتحريك غنيمته الضخمة0فذهب يبحث عن سماسرة العقار والضياع00يسأل عن البساتين والمزارع00 وبعد أن طاف على العديد منهم وقف على أحدهم وسأله عن بستانٍ يشتريه فأجابه الرجل:
-ليس عندي غير شوكة!
وماهي الشوكة؟
-نخيل وبستان مهمل00 أصحابه متنازعون متفرقون وقد أوكلوا إليَّ بيعه0
-إن كان في داخل بغداد فلا حاجة لي به0
-لا بل خارجها على مسيرة ساعتين من موضع قدميك0
-وهل هو واسع؟
-نعم00هل تحب أن تراه؟
-نعم0
-إذاً تعال إليَّ غداً0
-بل الآن!
وصاح السمسار منادياً على خادم اسمه سريع00فحضر عبدٌ أسود كهل بلحية بيضاء كرغوة اللبن00وخيل إلى غياث أنه معتوه أو أصمَّ00لأنه لم يتكلم ولم ينظر إليه،ولا إلى سيده وكانت عليه جبةٌ مرقعة وطاقية غليظة وحذائين باليين0
وقال له سيده:
- إذهب بهذا الرجل وأره شوكة0
ومضى غياث مع الخادم وحاول إستدراجه إلى الكلام فلم يظفر بشيء، وسار ساعة حتى خرج عن المدينة00 وسار ساعة أخرى حتى وصل إلى بساتين عديدة متجاورة، وما خلفها كان أرضاً جرداء، وفي بقعة معزولة قريباً من النهر00توقف سريع عند بستان كبير بحيطان متينة00 لايجاوره شيء00وكان فيه كثير من النخل أما أكثره فمساحات جرداء واسعة قد نبت فيها الشوك، وفي جزء منه قام قصر صغير فخم البناء، يحتاج إلى شيء من العناية00 وقد سحبت إلى البستان قناة من نهردجلة، وفي أقصاه قامت مساكن صغيرة كانت تستخدم لسكن العبيد والفلاحين00 وأعتزم غياث شراءه لإنعزاله وسعته ووجود ذلك القصر فيه0 ورجع إلى بغداد مع مرافقة الصامت وأشترى البستان بلا تردد0
وقال للسمسار:
- وأريد مع البستان شراء خادمك هذا!
ودهش السمسار لهذا الطلب الذي بدا له غريباً وقال:
-تقصد سريع؟
-نعم0
-إنه شيخ بطيء00 ليس له في السرعة إلا اسمه!
-هل يكتب؟
-إنه يكتب وقد جعلته على دفاتري وحسابي00 لولا أمانته ما أبقيته عندي!
-هل يجيد الزرع؟
-نعم إنه يعرف شؤون البساتين0 ولكن كما قلت لك إنه بطيء ولولا البغلة التي تحته ما وصلت البستان إلا في الليل!
-لقد أعجبني صمته وقلة فضوله00 وأنا أرغب فيه0
وأنضم سريع إلى كنف سيده الجديد،واشترى غياث مزيداً من الموالي ووجههم إلى البستان لإصلاحه، وعاد إلى المراقبة وكان يسلك الطرق المهجورة مطأطيء الرأس، متلثماً بطرف عمامته0
وذات يوم كان عائداً قبيل المغرب إلى داره وعندما دخلها أغلق الباب ووضع عمامته وتخفف من بعض ثيابه00 وكان السيف لا يفارقه في ذهابه وإيابه ولا عند نومه00 وما كاد يجلس حتى برز له في إحدى الغرف رجل يكرهه00 فوضع يده على السيف وهتف عابساً:
-سعيد؟!
-نعم لقد إلتقينا مرة ثانية0
ودهش غياث لحالة سعيد00 كانت ذراعه اليسرى مشوهة00 قد أتت النار عليها00 وكانت ثيابه ممزقة في بعض أطرافها0 وخاطبه غياث في خشونة:
-ظننتك هلكت!؟
-لا لم أهلك بعد00 لم يحن أجلي لذا فأنت تراني أمامك!
-ما الذي جاء بك إلى هنا؟
-جئت لزيارتك والسلام عليك0
-الزائر يقرع الباب ولا يتسلق الأسوار!
-استقبالك خشن ياغياث!
-هذا ما يليق بلص مثلك0
-وأنت ألست لصاً؟!
-وأين مروان؟
-هل يهمك أمره؟
-نعم 00 إن أمره يهمني0
وجلس سعيد على دكة قريبة منه ومد رجليه بلا مبالاة وقال:
-لست أدري عن مروان شيئاً00 ربما قتله حنظلة!
-ألم يقتل حنظلة فيمن قتل؟
-لا00 إنه لا يقحم نفسه في الأخطار إلا بالحذر00 ولقد لحق بمروان عندما هرب ظناً منه أن الذهب في حوزته0
- لا أظنه سينجو فقد ركب الخيل وهو يترنَّح0
-إنه صبور كالجمال00 لكنه لا يحسن التصرف0
-يبدو إلي أنه أقل شرساً منك00؟
-إنه أحمق ولولاه لما تعرضنا لهذا القتال بيننا!
فأكد غياث على ما قال:
-لكنه لا يبدو شريراً متمرساً مثلك؟
وهنا قضم سعيد شفته السفلى وقال في مكر:
-أنا ضيف عليك ياغياث ولا يحق لك شتيمتي بهذا الشكل00!
فأجابه غياث في جفاء:
-لكنني لم أدعوك ولم أرحب بك0
-لا يهمني هذا00 فقد لمحتك في السوق وتتبعتك حتى عرفت أنك تقيم هنا0
وأدار رأسه في الجدران والسقوف ثم أرعب غياث بنظرة حادة وقال:
-أنت فتى شجاع ياغياث ولو تضافرت جهودنا لأستفدنا كثيراً0
وأدرك غياث مايرمي إليه سعيد فقال:
-لاتحلم بمثل هذه الأمور00 فقد حصلت على مايكفيني ولا أظنني بحاجة إلى المزيد من التعب والمخاطرة0
عندها هتف سعيد بحدة وغيظ:
- وأنا وشقيقي أين تذهب أتعابنا وجروحنا ؟!
- تقصد الذهب؟
- وما الذي جاء بي إليك إلا طلب الذهب !!
فقال غياث ببرود تام!
-لقد سبق أن قلت لك أن الذهب سرق للمرة الثالثة!
-أنت تثير غضبي بكلامك هذا00
- هذا شيء أمره إليك وحدك00
تحلب ريق سعيد في فمه،وكدر ملامحه غيظ مكظوم،فقام من مجلسه وما أن تحرك أستل غياث سيفه00 فقال سعيد بدون أن ينظر إليه:
-هوِّن عليك ما جئت لهذا00 لو كنت أريد قتلك لأختبأت لك خلف الباب وقتلتك ساعة دخولك!
فهتف غياث:
-لا تتحرك من مكانك00
وبدون أن يأبه له تقدم سعيد إلى موضع الماء وقال:
-أريد أن أشرب وأغتسل00 لقد جئت أعرض عليك الصلح0
وتنحى غياث عنه في حذر فيما تقدم سعيد وغسل وجهه وشرب،ثم قال وهو يمسح وجهه بكمه القذر:
-أنت شديد الحذر وتخاف كثيراً00
-لا شأن لك بهذا 00 قل لمذا جئت؟
- لقد جئت لأقول لك إنه لم يبقَ إلا أنا وأنت وحنظلة ومروان إن كان حياً00 وأنا أعرض عليك إن شئت السلامة أن يكون لك ماحصلت عليه من الأموال، وتدلني على موضع الخرج الذي أسقطته في النهر0 وأما حنظلة فهو لا يعرفك ولم يرك ولا تعرفه ولم ترَ وجهه فإذا ظهر فإنما سيطلبني أنا ومروان00 وتكون بذلك قد أمنت جانبه وكفيت شرَّه0
وسكت سعيد ينتظر جواب غياث00 فتأمله غياث فرآه أصفر الوجه متعباً00 وكان يتكلم بثقة ويأس وتأكد لغياث أنه مقدم على تنفيذ مايريد ولو كان في ذلك حتفه00 ولكنه لم يصمد لأن شارات الإرهاق بادية عليه مما أغرى غياث أن يتحداه ويسأله بلا مبالاة!
-وإذا رفضت؟
فصاح سعيد وقد أستل نصف سيفه من غمده!
-إذا رفضت فهذا سيقنعك!
فقال غياث بهدوء وتحدي!
-إني أرفض00
عند ذلك رمى سعيد قدح الماء من يده وأستل سيفه بسرعة وانقض كل منهما على صاحبه،والتحما في قتال مرير00 كان صوت تقارع السيوف يغطي على الكلمات المبهمة التي يقولانها والشتائم التي يتبادلانها0
أستمر صراعهما طويلاً
دون أن تميل الغلبة إلى أيٍ منهما00 وتصبب العرق غزيراً من جسديهما00 كان غياث أقوى جسداً من خصمه لكن سعيداً كان أمهر في استعمال السيف0 وتأكد لغياث أن صاحبه عليل ومتعب، فقد أرتخت نظراته وتعددت ضرباته الخاطئة، وحانت منه فرص ومقاتل لكن غياث كان يتجنب قتله0 وأزدادت صفرة سعيد،وبدأ يتراجع فيما نشط غياث00 وتعثر عدة مرات لكنه كان ينهض عاجلاً، وبحركة من غياث جرح ذراعه وضرب سيفه بقوة ليطير بعيداً ثم هجم عليه واطاح به، ووقف على رأسه متصاعد الأنفاس رافعاً سيفه إلى أعلى0
وهتف سعيد لاهثاً:
-أضرب00 فما عاد للحياة طعماً عندي!
وحاول أن ينهض فأهوى غياث بمقبض سيفه على رأسه فسقط مغشياً عليه0






الفصل السابع

العمل في البستان في تطور مستمر00اقتلعت الشجيرات الزائدة00وشذبت الأغصان المتهدلة00وقلمت الأشواك من النخيل00وابتكر غياث محجراً لإحراق الأوراق ومخلفات جريد النخل تشبه البركة غير العميقة00وأُجري الماء بغزارة على الساحات الجرداء00وجرت الثيران القوية بالمحاريث عليها00وزاد غياث من أشجار البستان وأسرف في زراعة العنب00وأعتنى بحجرات الخدم والعبيد،وأصلح من شأن القصر الصغير،وزرع حوله أصنافاً من الرياحين والأشجار المتعددة00وأبتنى في ناحية نائية من البستان بيتاً صغيراً بفناء صغير جميل، وأعدّه للقّيم الذي سيشرف على تجارته وزراعته ويقوم على بيع الثمار في أسواق بغداد0
وفي غضون ستة أشهر من وصول غياث إلى بغداد أصبح البستان جنهً لا يملها الناظر0
وقد عمد غياث من تغيير أسم البستان من "شوكة" إلى"المغاث" نسبةً إلى أسمه ونقش ذلك على الباب0
ويدين غياث بكثير من تقدم بستانه إلى كبير عبيده"سريع" الذي كان كما وصفه سيده الأول بطيء الحركة، لكنه لا يتوقف وكان أميناً00طويل الصمت00شديد الطاعة لسيده0
وبرهن سريع لسيده منذ الأيام الأولى أنه خير مؤتمن على السر، وينفذ ما يطلب منه بدقة وبلا أسئلة0
ففي ذلك اليوم الذي أقتتل فيه سعيد وغياث، قام غياث بنقل خصمه الذي أغشي عليه إلى مزرعته وسجنه في غرفة كبيرة مهجورة في مكان معزول من البستان، وعلى تلك الحجرة سور بُني من الحصى وقد أخفت أشجار من السدر طويلة ذلك المبنى عن الأعين0وكانت تلك الحجرة تستخدم مخزناً لأعلاف الماشية فيما مضى0 وقد أستيقظ سعيد ليلاً مشوش الفكر من الضربة التي أصابته ليجد نفسه مجرداً من سيفه ومسجوناً في تلك الغرفة00 ومربوطاً إلى سلسلة طويلة لا يستطيع منها فكاكاً00 وكان غياث هو أول مَنْ رآه فخاطبه في كآبة وهزيمة:
-ماذا صنعت بي؟
فقال غياث في سخرية:
-صنعت بك ما ترى00أسرتك وسأكرمك لأنك ضيفي كما تقول!
-ألا تنوي أن تُريحني؟
-لا00لقد قلت لك أني لا أحب القتل0
-لكنك تقتلني حين تربطني بهذه السلسلة كالكلب!
-إنك شرير ولو كنت آمنك لأطلقت سراحك00وستبقى في هذا الموضع حتى امظر في أمرك0
تقبل سعيد هزيمته بنفس شجاعة فلم يستجدِ ولم يطلب الرحمة مم أثار الإعجاب في نفس غياث بتجلده وصبره00وخرج من عنده،وأوكل رعايته إلى عبده سريع،وأوصاه أن يكتم خبر السجين عن الخدم وعن أي أحد0 وأصبح سريع من ذلك اليوم يحمل الطعام والشراب والفاكهة والنبيذ إليه0 وكان يفعل ذلك بصمت، ولم يسأل عن السجين00 من هو ومن أين جاء ولماذا سجن هنا!!
وكانت مطالب سريع قليلة وأكثرها من شأن البستان والعاملين فيه،ولم يطلب لنفسه شيئاً إلا مرة واحده،حين قال لغياث في تردد
- إن شاء مولاي أن يكرمني بأعطية من عنده أحفظها له مابقيت حياً00فقال غياث في سرور:
- زوجتك00أعرف ذلك00 تريد أن أشتريها وأحضرها؟
- لا يا مولاي لقد ماتت زوجتي قبل عشر سنوات وأنما أطلب أبنتي عطر00
- ومن يملكها الآن؟
- سيدي الأول00السمسار الذي أشتريت البستان منه0وأشترى غياث"عطر"بعدما غالى سيدها في ثمنها00 وقد تبين لغياث فيما بعد أن عطر تفوق ثمنها عدة مرات00لقد كانت أمها رومية أُسرت في أحدى المعارك، وقد أشتراها السمسار وأنكحها عبده سريع فولدت له عطر وماتت بعد ذلك بعشر سنوات0 وقد مزجت الصبية بين دكنة أبيها وصفرة أمها، فجاء لونها نحاسياً بارقياً0 وورثت عن أبيها الطاعة والصبر على الأسياد0 وكانت مهذبة ظريفة، فملكت على غياث قلبه فأتخذها سرية وسكنت معه في القصر00 وأزداد إكرامه لوالدها، فلم يعد يندبه إلا في الأمور الهامة أو الإشراف على عمل الخدم0
واشترى غياث الأرض الجرداء المجاورة لبستانه ،وأخبر عبده أنه سيزرعها قمحاً في الموسم القريب0فعلق سريع مغتماً:
- أنا لا أعرف زراعة القمح ياسيدي00 وقد أصبحت شيخاً ثقيل الحركة كما ترى0 وسكت ليستجمع أفكاره وأحنى رأسه إلى الأرض وغياث ينظر إليه باسماً ثم قال:
- إن شاء مولاي أن نستأجر لزراعة القمح فلاحاً عارفاً بزراعة القمح وأكون أنا منصرفاً إلى الخدم والأسواق؟
فقال غياث:
- سيكون لك أكثر مما طلبت00 فسنستأجر للقمح من يقوم على زراعته،وبعد موسم القمح سأجعل على الأسواق قيماً وسيسكن في الدار التي ابتنيتها لهذا الغرض0
وتمضي الأيام في حياة غياث بن عبد المغيث حلوة00سعيدة00 فقد أحتوشته الرفاهية00واستلقى على آرائك النعيم00 وتجلى عنه ليل الممرة الكئيب00ومنحته الأيام صباحها0
أصبح لا يأكل إلا الخبز المنخول00واللحوم الفاخرة، وتجلب له الحلوى من بغداد كل يومين00ويشرب النبيذ الطيب والخمر المعتق00 ويلبس ثياباً موشاة بالحرير00 ويتنزه كل صباح وعصر في أنحاء البستان الواسع بصحبة جاريته عطر00 تطرفه وتسليه بأحاديثها00وربما أخذته النشوة أحياناً فيقفز كالأطفال ممسكاً بيدها ويصيح معبراً عن حبوره!!
وأراد أن يمحو كل شيء يذكره بالماضي الكئيب00 فتناسى حنظلة فهو لا يعرفه00 ومروان ضعيف ومفقود وربما قتل00وسعيد في سجنه00 وظفر يوماً في بعض خزانات القصر بصرة ثيابه القديمة وقد وضعنها إحدى الخدم،فأخذها وقلّبها بين يديه ثم قذف بها في بئر يابسة في طرف البستان0
كان دائماً ينظر إلى نفسه في المرآة00 عيناه الحالمتين وفمه الجميل على حالهما أما كفيه فقد غسلت النعمة خشونتهما، فكانا على شيء من الليونة00 أما جسده فما زال على قوته ومتانته00وتضرج وجهه بحمرة النعيم00 وكان يقضي أكثر يومه فائق الحيوية والبشر00مسرفاً في شرب الخمر والنبيذ0
أمتلك السعادة التي ينشدها00 وتحقق له النعيم الذي يطلبه00 وصدقت ظنونه حين وضعت الثروة حداً لشقائه المستديم00 وقرر في نفسه أن الحياة أبتسمت له بعد طول عبوس00 وأن بدره قد أكتمل نموه00


الفصل الثامن

توقف شيخ كبير مسن على باب بستان غياث وقرأ اسم البستان "المغاث" المنحوت عليه، ثم ترجل عن بغلته الهزيلة التي يركبها00 ثم قادها بزمامها إلى الداخل وسار حتى وصل إلى القصر وربط بغلته في مربط الدواب وذهب أحد الخدم ليخبر سيده أن رجلاً يطلبه0
كان الشيخ نحيلاً ومهزولاً كالدابة التي جاء عليها00لكنه كان مهيباً وقوراً00مغضوب اللحية بالحناء00عريض الحاجبين أبيضهما00بعينين بارقتين لامعتين بالفطنة0
وخرج غياث إليه وفي يده كأس النبيذ00فأصطدمت نظراته بهيئة الشيخ، وما أن رآه حتى أعتراه الخجل ووضع الكأس جانباً00ورحب بضيفه ودعاه للجلوس على بساط كبير مفروش تحت ظلال الأشجار القريبة من القصر فجلس وقال:
-لقد ذكر لي الخادم سريع أنكم في حاجة إلى من يقوم على زراعة القمح في الأشهر القادمة0
فقال غياث وهو يشير إلى أرض القمح البعيده التي أُعدت وحرثت:
-نعم نحن بحاجة إلى من يقوم بزراعة تلك الأرض00فلا يوجد عندنا أحد يقوم بذلك،وقد أمرت عبدي أن يستأجر فلاحاً لهذا الشأن:
-وأين صاحب البستان حتى نحدَّثه؟
-أنا صاحب البستان!
فدهش الشيخ لكون هذه الضياع الواسعة لشاب في الثامنة والعشرين وقال:
-أنا أسمي شرف الدين من بغداد وأحسن العناية بالقمح،فإن شئت عملت عندك وأخذت العُشر عند الحصاد0
-لقد قلتُ لسريع أنني أريد أن أستأجر فلاحاً بالأُجرة00يأخذ أجره إذا أنتهت السقيا وقطع الماء عن الزرع!
-أنا أعمل يابني في مزارع الناس كل سنة وكنت أتفق معهم على جزء من الحصاد!
تأمل غياث الرجل فأرتاحت نفسه إليه وقال محاولاً أقناعه:
-سأجزل لك الأجر فذلك خير لك00فقد يأتي الحصاد شحيحاً00
-من أجل هذا طلبت جزءاً من الحصاد فلا أريد أجراً كاملاً عن حصاد شحيح0
-لكني راضٍ وقانع بذلك!
-إذاً فلم نتفق!
وبلا مناقشة ودَّعه الشيخ وقام إلى بغلته ليذهب فقال غياث على الفور:
وافقت00وافقت00
استقرَّ شرف الدين00 فلاح القمح00في الدار التي عدت ليسكنها القيَّم00 وشرع في العمل وأظهر دراية بالزرع وأجرى الماء وتابع السقيا، وبعد مدة بدأت وريقات القمح تشف الأرض ثم تأخذ في الإرتفاع تحت شمس دافئة عجلت بإنباتها0
وزار غياث شرف الدين وتكررت زياراته له00واجتذبه سمته ووقاره وهدؤه،وأصبح يأنس له ولا يخفي عن مودته0وتضاعفت تلك المودة عندما طفق سريع ينقل إليه أخبار شرف الدين في بغداد ويثني على سيرته00فيعرف أنه لم يكن فلاحاً فحسب بل هو على جانب من العلم والتقى والفضل00يتكسب عيشه من العمل بالزراعة عند الناس0
وكان غياث يقول لجاريته عطر أو لسريع في صراحة تامة:
-أنا أحس بالبهجة حين تقع عيني على رجل من الصالحين منذ أن كنت صبياً00لكن شرف الدين مختلفاً كثيراً،فأنا أبتهج لرؤيته وأهابه،وقد فطن إلى ذلك فأصبح ينهاني عن الخمر ويعظني ويناصحني فصرت لا أشربها في حظرته، ولا في الوقت الذي أتوقع حضوره فيه00ولا أخرج إليه إلا إذا فارقني أثرها،وليس أحدٌ يشبهني فأنا سكير منحرف، ويعمل في فلاحة أرضي طالب علم تقي!!
مضت ثلاثة شهور00 وأوشك موسم القمح على الانتهاء ،وكانت سنابل القمح رفيعة متسامقة00تتمايل مع حركات الهواء00ورائحتها زكية00 تزيد السرور في نفس غياث00 وكانت الفترة الأخيرة من العمل تحتم أن يكون الماء متدفقاًً باستمرار على جذور السنابل التي ستصبح بعد مدة قصيرة صفراء ذهبَّية لتقطف بعدما تجف تماماً0
وركضت الأيام سعيدة مبهجة في حياة غياث بن عبد المغيث،وقد زادها تواجد شرف الدين ببشاشته ورحابته أنساً0
وجاء يوم أهتزت فيه قناعة غياث بواقعه00وفقد ثقته في سعادته،وفي الحياة الرغيدة السهلة المحيطة به00
تسللت إليه شمس الحقيقة ساخنة لتحسر عنه ظلال الوهم الذي كان يؤي إليه0
وكان ذلك على يد شرف الدين!
ففي بعض جلساتهما كانا قد فرغا من شؤون الزرع، وكعادته كان شرف الدين يذكره بالآخرة والتقوى00ويعضه00وينبهه إلى الثغرات فيما يظنه سعادته00 وفي معرض حوارهما سأله شرف الدين:
-لماذا أنت حزين يا بني ؟
فقال غياث باستغراب:
-أنا لستُ حزيناً00كيف رأيت أني حزين؟!
-لأنك تعاقر الخمرة بإستمرار00 وهذا دليل حزنك.
-أنا أشرب الخمر لأني أبتليت به،مع أني أحاول جاهداً الفكاك منه0
-لا00بل أنت تهرب إليه00لأنه يذهب بك عن دنياك التي تجدها محزنة!
-لكني أجد دنياي سعيدة!؟
-لو كنت سعيداً لما شربت الخمرة00لأنها دواء المحزونين!
-إن الدنيا قد أحزنت الكثيرين،وأنا قد أستوفيت عِدة السعادة فيها00فما الذي يدعوني إلى الحزن؟!
-وما أدراك فقد يكون هذا سبب شقائك00 فإن في المال خاصية عجيبة، فقد تجد اللذة في تمنيه والحلم به00فإذا حصل شقيت به وتبين لك أنه كالسراب يسرك مظهره ومخبره الظمأ والخداع!
-ماأدري هل أنت فلاح أم حكيم!؟
-لا تشغل نفسك بي00 ودعني أفيدك بشيء ربما عقلته أنا لكبر سنّي؟
-ماهو؟
-إن الناس يشتمون الفقر ولو أنصفوه لوجدوه عين الراحة والسلامة في أدواء كثيرة!
-الراحة!!ومن هذا الذي يجد الراحة في الفقر؟!
-يرتاح بالفقر الذي تخفف من طمع الدنيا،وشغلت عليه الآخرة قلبه0
-كثير من الناس زهدوا في الدنيا،وآثروا الآخرة لعجزهم عن الحصول على الدنيا00
-ربما يكون ذلك من حسن تدبير الله لهم ولطفه بهم00فلو تحصل لهم المال لطغوا وانحرفوا0
-حقاً ويكون الفقر بمثابة دليل لهم إلى الآخرة ونجاة لهم0
-الفقر يذمه صاحبه في الدنيا ويحمده في الآخرة0
-لكن النبي صلى الله عليه وسلم قرن الكفر بالفقر ووصف الجوع بأنه بئس الضجيع0
-لقد تيسرت للنبي صلى الله عليه وسلم سبل الغنى00فقد ملك العرب وساد الناس،وأخبر أنه لو شاء لسارت معه الأودية ذهباً وفضة00 ومع ذلك فقد كان بعض أصحابه أطيب عيشاً منه وأسهل حياة00 وهذا إختيار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم0
-إذاً فالأغنياء -على كل حال - في شقاء مستديم!؟
-في شقاء إذا استقر المال في قلوبهم00 أما إذا عمرت الآخرة قلوبهم وتحول المال إلى أيديهم، وقاموا بحق الله فيه فهم خير من الفقراء والمؤمن القوي خير من الضعيف والمال نوع من القوة0
ولسبب لايدريه شرف الدين قال غياث بلهفة:
-لكنني سعيد بما أنا فيه من الغنى الواسع!
فقال شرف الدين ببديهية:
-سبحان الله00هل تثق في حواسك كل الثقة00إذا إستجابت لكل ما تحس به،وحكمت على ماحولك بإحساسك هلكت فالأذن تخدعك والعين تخدعك00والنفس تخدعك وتميل بك إلى ماتشتهي وإن كان ضلالاً!
ألا ترى على كثير من العصاة00 إنهم يفعلون المعصية ويحسون أنهم على صواب فينخدعون ويمضون على أخطائهم!
-إذاً فلن نفعل شيئاً البتة خوفاً من خديعة الحواس؟
-ولهذا أنزل الله الدين حتى يكون مناراً يُهتدى به ويُستدل به على الصواب والفلاح،حفاظاً على الإنسان ورحمة من الله به أن يتبع هواه ورغباته فيضل ويهلك0
كما أن الحلال بين والحرام بين وكل ما أمر تزنه بميزان الله يتبين لك خطأه من صوابه0
-وأين تكون السعادة إذاً؟!
-أنا سأسألك00أين تكون السعادة؟
-أنا أقول إن السعادة في طاعة الله وتقواه،ولكني وجدت سعادتي في الثراء!
-هل جربت سعادة الهدى والتقوى0
-لقد صليت عدة مرات وكنت مع ذلك محزوناً!
-يابني تقوى الله مراتب00 وكلما أقتربت من ربك كرهت الدنيا،وصرت تراها عبئاً ثقيلاً ومرحلة متعبة تشوقك دوماً للفكاك منها0
-ومتى أصل لهذه الحالة؟
-إذا أتهمت نفسك وشككت في حياتك التي تزعم أنك سعيد بها00وأنا الآن أدعوك للتأ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://albetoul.forumalgerie.net
البتول
Admin
Admin
البتول


عدد المساهمات : 249
نقاط : 122472
تاريخ التسجيل : 26/09/2013
الموقع : الفردوس الأعلى إن شاء الله

رواية السجين يهرب... Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية السجين يهرب...   رواية السجين يهرب... Icon_minitimeالجمعة يناير 31, 2014 12:53 am

-إذا أتهمت نفسك وشككت في حياتك التي تزعم أنك سعيد بها00وأنا الآن أدعوك للتأمل فيما مضى من عمرك،وما بقي وما سيعقب ذلك وأرجو أن تتجه إلى ربك بالعبادة التي يضيء بها القلب ويعمر بها لاتلك التي لا تعدو الجوارح0
وتناهض الشيخ للإنصراف بعدما أوصى غياث أن يبدأ بالشك فيما حوله من حياةٍ وداعةٍ وسعادة مزيَّنة0
وكان هذا اللقاء نقطة البداية في حياة جديدة00قام غياث ذلك اليوم وقد أشتعلت في نفسه جذوة الحزن من جديد،وتسللت إليه كلمات وأفكار شرف الدين التي قلبت حياته رأساً على عقب!

الفصل التاسع

ذات مساء00أوغل الليل في المسير00 وجلس غياث بن عبد المغيث في مجلسه الواقع خارج القصر00وأوقد ناراً وجعل يقلب كفيه فوقها ملتذاً بدفء،ويتأمل تراقص لهيبها00كان كل شيء ساكن والعاملون في البستان قد آووا إلى مساكنهم00ولم يكعكر صفو ليلته تلك سوى أحزانه التي تجددت وفجر الشيخ شرف الدين سدودها،فقد زعزع قناعته بالهناء المحيط به وفضح كآبته السابقة ونشرها كجيفة كان التراب يواريها،فأخرجت من التراب وأنتشرت رائحتها عفنة تعم الأرجاء!
إذاً فهو غير سعيد!00فلوكان سعيداً حقاً فلماذا أغتمَّ لجراحه القديمة التي نكأها شرف الدين00ولماذا أصبح يساهر الليل وحيداً محزوناً!؟
وقذف في النار بع الحطب00
لا00إنه غير سعيد00لقد كان يوهم نفسه بالسعادة!ليعترف بهذه الحقيقه التي كانت تتبدا له فيغمض عينيه عنها00حقاً إنه لم يحس بسعادة سليمة من شوائب المرارة منذ أن أستولى على هذه الأموال!
لقد أوجعه هاذا الإكتشاف الجديد،فعاد يحاول التشبث ببقايا هنائه0وتشبث بكذب لذيذ، وآثر أن ينظر إلى الوجه الساطع في حياته،وأوهم نفسه في تلك الليلة بالبهجة ،وتكلف السرور وطرد الأحزان،فشرف الدين لا يعلم عن دواخله ولا قلبه00وحواسه لايمكن أن تخدعه!!
ولبس ثياباً جديده على جروح قذرة00وتمدد على الفراش الوثير متكاسلاً عن الذهاب إلى حجرته00حتى أخذه النوم0
في الصباح هزته يدٌ رقيقة فأستيقظ ناعساً00 وأبتسم لجاريته التي وقفت على رأسه باسمة وقالت له:
-لقد جاءني والدي لأطلب منك أن تتحثث من جفاف القمح قبل أن يحصد ويدرس0
ونهض وأغتسل وذهب برفقة جاريته متسكعاً ببطء كسعادته بين الخمائل والنخيل وعرائش العنب،وهي تزف إليه روائحها الندية العابقة مع أنسام الصباح0
ولم يسر غير قليل حتى أدهشته عطر بسؤالها:
-هل تعاني من ألم يامولاي؟
فألتفت إليها وهو يقول:
-لا00بل احس بمزيد من العافية!
-أنت مكابر00وتستعلي على أوجاعك00 إن وجهك بائن الصفرة!! لقد لاحظت ذلك بعد قدوم شرف الدين! لقد أصبحت تجلس وحدك،وتظل ساهماً وكنت أراقبك فإذا رأيتك على هذه الحاله تركتك!
-أنت مخدوعة!
-لا00بل لقد رأيتك يوماً تبكي وحيداً فآثرت أن أمضي دون أن تراني00
-أنا أبكي؟!
-نعم00هذا مارأيت!
-لم أعلم بذلك فكيف أبكي وأنا لا أعلم؟!
-أنا من يسأل هذا السؤال؟
لم يجبها بشيء سوى ان طمأنها بسلامته،وأكمل جولته ثم رجع،وأراد أن يتجول في الأنحاء، فأمر سريعاً بتجهيز الخيل وفوجيء به يقول هو الآخر:
-إن شاء مولاي أن يؤخر تجواله ويستريح؟
فقال مدافعاً عن نفسه:
-لكني لاأبدو متعباً؟
-أنت بادي الإرهاق يا سيدي0
وغشيته الكآبه من جديد وقد آثارته هذه الملاحظات، وتأكد له أنه يخادع نفسه ويتوهم أنه على ضفاف النهر من السعادة وهو خلاف ذلك00 لقد أصبح كمن تناول جرعة ماء ليغسل فمه فأكتشف أنه شديد العطش وهو لايدري!
ومضى راكباً فرسه تاركاً عطر ووالدها وقد حيرهم أمره00وحيرتهم تلك التغيرات الجديده في حياته!
خرج غياث ليتخفف من الكدر المطبق عليه00وأمضى يومين كاملين في غيبته لايعلم أحد أين هو00ثم عاد محملاً بالمزيد من الكآبة00 ولم يجرؤ أحد على سؤاله أو محادثته بشيء،فمضى إلى حجرته وأغلقها على نفسه،ولم يخرج بعد ذلك!
وطالت مدة الحبس الذي أختاره غياث لنفسه00وكان الخدم يطرقون عليه الباب فلا يرد ولا يقبل الطعام00وحاولت عطر إقتحام عزلته فلم تقدر!واستنجدت بأبيها فلم يَلقَ جواباً00وظنَّ الجميع أنه هلك لولا بعض الأصوات المبهمة التي كانت تصدر من جوف الحجرة بين فينة وأخرى00وتثبت لهم أن سيدهم مازال على قيد الحياة0وأخيراً خطرت لسريع فكرة00مضى إلى بيت القيَّم وطرق البا ليستنجد بشرف الدين0
وجاء شرف الدين وأجتمع ببعض الخدم فأمرهم أن يبتعدوا حتى لا يثيروا حفيظة غياث00وطرق باب حجرة غياث بهدوء فلم يرد،فطرقه ثانية بإلحاح فجاء صوت غياث من الداخل ينهر الطارق ويأمره بالابتعاد،فقال شرف الدين:
-أفتح ياغياث00 أفتح يابني أنا شرف الدين0وتكاثر الخدم وجاء بعضهم من الحقول لمشاهدة ما يحدث00وتراصوا في الممر المؤدي إلى الحجرة00ثم سُمع من الداخل صوت يروح ويجيء على عجل ويحرك بعض موجودات الحجرة،ثم فتح غياث الباب محزوناً مدهوشاً ورحب بالشيخ الفلاح وبان على وجهه سرور حقيقي وقال:
-لم أكن أتوقع مجيئك إلى غرفتي!
فأختلق شرف الدين عذراً وقال:
-لقد أردت أن أودعك قبل رحيلي،فقد أنتهى القمح ويجب أن أذهب0
ودخلا إلى الغرفة وأغلق غياث الباب ثم فتحه فجأة وألتفت بصرامة في وجوه الخدم والعبيد الذين كانوا قد تكدسوا في الممر وأرتفع بعضهم على أطراف أصبعه لمشاهدة غياث وهتف بهم:
-أنصرفوا00!
ولم يغلق الباب حتى رآهم ينصرفون مسرعين في شيء من الذعر!
وكان غياث يرتدي ثيابه التي عاد بها من رحلته الغامضة00 وحذاؤه لم يخلعه طوال هذه المدَّة، حتى شكل عمامته لم يتغير00وكان ذابل النرات00 متعباً مكدور الملامح!
ومضت ساعتان كاملتان قبل أن يخرج غياث من الحجرة يتقدمه شرف الدين ولاحظت عطر أن سيدها محمر العينين00 رطب الأجفان!!


الفصل العاشر


رحل شرف الدين إلى بغداد بعد إنتهاء مهمته واتبعه غياث بالجمال التي تحمل نصيبه من القمح0
رحل00 وبقي أثره واضحاً جلياً على غياث فقد أنتهج في حياته أسلوباً جديداً فصار لايضع صلاته ولا يترك فروضه00وامتنع عن شرب الخمور00ولم يعد يحمل السوط إرهاباً وهو يتجول بين الحقول!وأمر عماله أن يهريقوا قدور النبيذ00 وبإستقامته انزاح عنه كثير مما يثقل قلبه00وصار يجد في الصلاة ملاذاً يختبئ فيه عن أحزانه وقتامة أيامه0
ولكنه ظل متشبثاً بحب المال00 يرى أنه سيكون منقوص السعاده بدون ثروة، ولهذا تولَّد لديه صراع00واشتعلت الحيرة في نفسه تجاه هذه الأموال التي يستمتع بها،وهو يعلم أنها ليست له00وحاول إقناع نفسه بأحقيته في ذلك وبجدوى عمله0
وكأنما كان القلق والعذاب له بالمرصاد، فقد جاءه سريع وأخبره بوجود شاب أمين ونشيط من أهل بغداد على جانب كبير من العلم بالحساب وشؤون البيع00
وقال سريع:
-إنه فقير00وقد عرضت عليه أن يعمل لدينا في البيع والتجارة والإشراف على غلات البستان وبيع القمح0
فسأل غياث بلا مبالاة:
-وهل أخبرته بوجوب الإقامة في البستان؟
-نعم ياسيدي00 وقد وافق على الفور لأنه لا يكاد يجد أجرة المنزل الذي يسكن فيه ببغداد0
بعد أيام حضر القَّيم الجديد ليأخذ مكان شرف الدين في البيت، وليقوم بإدارة البستان والزراعة ويذهب بالغلات إلى أسواق بغداد0
مضت عشرة أيام على وصوله00 وفي عدة مرات كان سريع يأتي إلى غياث ويسأله إن كان يرغب في مقابلة الشاب الذي جاء يعمل عنده00فكان غياث يصرفه ويقول:
-لا00 ليس الآن دعه يتعرف على أعمال البستان وصنوف الزرع0
وكان يسأل سريعاً دائماً عن أحوال سعيد المسجون فيخبره أنه بخير وأنه على حاله من الغضب المستديم والتهديد والشتائم فيطمئن غياث لذلك،ويوصي عبده بالمزيد من العناية به0
وطوال هذه المدة كان غياث منصرفاً إلى شؤونه الخاصة مشغولاً بهمومه المتزايدة00ومكابدة نفسه الثائرة00 ولم يكن يفارق القصر إلا حين يقوم بجولته الخارجية وكانت تصحبه عطر في جولاته وكان في ذلك تسلية يومية له00وترك التجوال في الحقول والبستان ونسيها ونسي القَّيم الجديد00ولأول مرة تمنى أن يرزق بغلام يملاء عليه وحدته وحياته بالبهجة0
وذات عصر كان جالساً تحت ظلال الأشجار الوارفة القريبة من القصر، فأقبل إليه رجلٌ يشق عرائش العنب، وما أن وصل إلى بساط غياث حتى سلم بخجل ثم قال:
-أنا القَّيم الجديد على البستان ياسيدي00 هل تأذن لي بالجلوس ؟
فقال غياث:
-لقد توقعت ذلك عندما أقبلت علي0
ورحب به ودعاه للجلوس0
كان الشاب كما وصفه سريع00مهذباً00بائن الحيوية00عليه شارات الجد00وكان طويلاً مضرج الخدين بالصحة00 له هيئة توحي بفقره0
وقال الشاب في بشاشة:
-قيل لي إنك لا ترغب في مقابلة أحد00لكن تجرأت بالقدوم إليك00 فقاطعه غياث في وداعه:
-كان يجب أن أراك ساعة قدومك00لكن حالة دون ذلك أعمال أخرى0
-لقد أضطررت لإقتحام مجلسك لأن اشغال الزرع والبضاعة والسوق تتطلب ذلك0
-كيف وجدت الدار؟لقد أمرت سريعاً بتجهيزها قبل وصولك؟
-إنها خير مما كنت فيه ببغداد00وهي إلى ذلك جديدة البناء0
-لم يمض على بنائها سوى عام!
وابتسم الشاب وهو يقول:
-لقد وسعتنا على كثرتنا!
-وهل أعجبت أسرتك؟
-يجب أن تعجبهم فقد كانوا في أضيق منها في بغداد!
-وهل زوجتك معك يا00أنا لم أعرف أسمك إلى الآن؟
-معبد بن عيسى0
-هل تزوجت يامعبد؟
-لقد أشغلني والدي بالبيع والعمل وكنت أعمد إلى تأجيل الزواج بسبب ذلك0
-إذاً كيف تركت والدك وحيداً وجئت بأسرتك إلى هنا؟
-لقد توفي والدي وترك لي هذه الأسرة الكبيرة0
وأطرق إلى الأرض محزوناً00فقال غياث يلاطفه:
-يجب أن تزيد في حجرات البيت00ألا يوجد من يساعدك على طلب المعيشة؟
-هناك أخ لي في السابعة عشرة00 وقد جاء معي بالإضافة إلى أخواتي فقد علمتهن أمي صناعة السلال والحصر من جريد النخل،فإذا اجتمع لنا شيء من ذلك يذهب أخي موسى لبيعه في بغداد0
-إذاً فقد عانيت من الفقر كثيراً0
ابتسم الشاب وقال:
-لا00 أنا خير ممن هم دوني00 لقد كنا نتحصل على شيء من اللحم إذا أعطاني من أعمل في دكانه أجرتي كل شهر00 أما البر فقد كنا نأكله كل أسبوع00 وسائر الأيام نكتفي بخبز الشعير00وملابسنا وباقي حوائجنا كنا نشتريها إذا باع أخي من السلال والحصر00وكان بعض من يعرفون حالنا يأتون إلينا بدراهم أو طعام لكن أمي كانت ذات جلد وصبر ،فترفض ذلك أنفة،وربما أخذت أنا المال لأدفع أجرة الدار بدون علم أمي!
وأحنى غياث رأسه إلى الأرض، وقد أكتسحه شعور مفاجيء بالحقارة،فأزدرى نفسه ولم يتكلم حتى نهضا لتفقد شؤون البستان والتجول في أنحائه0
وفي تجوالهم مروا على بيت القَّيم الذي كان قريباً من النخيل00فخرج الصغار لمشاهدة صاحب البستان وتوقف غياث يتأملهم00 كانوا ثلاثة صبيان أكبرهم في التاسعة،وثلاث بنات دون الثالثة عشرة00كانت شعورهم منفوشة وثيابهم قذرة وكانوا يتضاحكون ويتخاصمون في حبور على تمرٍ إلتقطوه من أحواض النخيل، فرحين بالأفياء الواسعة التي أنستهم أزقة بغداد الضيقة00وقد جنحوا إلى الصمت لدى وقوف سيد البستان كانوا على شيء من الملاحة والنشاط،لولا يد الفقر التي طالتهم وعبثت بنظراتهم0
والتفت غياث إلى معبد ليقول شيئاً فوجده مطرقاً على الأرض00 خجلاً من هيئة أخوته00 فلزم الصمت وآثر الإنصراف رفقاً بالشاب!
وقد أثبت معبد بن عيسى جدارته في العمل وأستولى على إعجاب غياث بن عبد المغيث في أقل من شهر بإلمامه بالسوق ودقته في الحساب، وعلى صغر سنه فقد كانت سمعته طيبة في أسواق بغداد0
وقد فوض إليه غياث بكل شيء في شؤون الزرع والغلات والمال، وزاد في أجرته وبعد شهر آخر كان قد بعث في البستان دماء جديدة،فزاد في الزروع وأصلح الحوائط وأقترح على غياث تسيير قافلة لبيع بعض الغلات في القرى القريبة من بغداد، ونفذ هذا الإقتراح بقافلة صغيرة أرسلها مع أخيه موسى فعادت بربح طيب0
وزال كثير الكلفة بين غياث ومعبد، وأصبح الحديث بينهما يتعدى شؤون التجارة،وما زاد من ثقة غياث بمعبد كفاحه وقيامه على تربية أخوانه الصغار والمثابرة على تعليمهم القراءة والكتابة وتدريبهم على الأخلاق الحميدة0
ومن جانبه أعجب معبد بهدوء غياث ورزانته وتجنبه الثرثرة00ولم يضجره سوى عزلته الصارمة ووحدته القاسية التي لم يشهد لها مثيلاً00فهو لايتعدى بستانه وقصره ولا يهتم بغير خيوله وتدليلها أو التجوال مع جاريته هنا وهناك00وأضجره تحفظه عن الكلام عن نفسه00فهو لايعرف عنه إلا إسمه،وأنه مالك هذه الضياع وحاول الحصول على شيء من سيرته من العبيد الخدم ومن التجار في بغداد،فلم يجد عندهم أكثر مما عنده! فاقتنع أن صاحبه يطوي نفسه على كثير من الأحزان والغموض00فترك الإلحاح لمعرفة ذلك،وتتبع سيرة غياث خصوصاً عندما نهره ذات يوم بعنف وخشونه وعلى غير عادته وقد رآه يقترب من البيت الصغير المهجور المحاط بسور من الحصى0
وبطبيعة متسامحة نسي معبد هذا الجفاء من غياث ولم تتأثر علاقته به00إلى أن حدث ما عصف بهذه الألفة بينهما عصفاً وأضاف إلى أحزان غياث الهادئة أحزاناً جديدة ثائرة وعنيفة0
ففي مجلسه المعتاد أخر العصر جلس غياث يتناول الفاكهة، ولم يلبث حتى جاءه معبد وفي يده دفاتر البيع وقال بأسلوبه المهذب :
-أتأذن لي في الجلوس؟
فقال غياث:
-نعم تفضل00ماهذا الذي بيدك؟
-دفاتر السوق00 جئت لنراجعها معاً0
فقال غياث مداعباً:
ظننتها أوراق علم أو شعر!
-لم يترك لي طلب المعيشة وقتاً لقول الشعر0
فقال غياث وقد تذكر موهبة الشعر التي ماتت عنده منذ سنوات:
-وهل كنت تقول شعراً يامعبد؟
-أبيات قليلة تعد على الأصابع0
-ولماذا لم تواضب على قوله00فالشعر أداة ليخفف المرء عن قلبه؟
-لقد كنت أقوله في صباي، ولما بلغت العشرين من عمري تركته00 ثم قلت قصيدة صغيرة قبل سنة ولم أكتب بعدها شيئاً0
فأبتسم غياث بسرور وقال:
-هل تحفظ من القصيدة شيئا؟
-أذكر منها مطلعها:
أسامر النجم والأقوام قد رقدوا *أبيت هماً وحولي الناس قد سعدوا
بكيد من كمدٍ من هول فاجعة *سكبت فيه دموعا مالها عدد
أبكي لفقد أبي من بعد رحلته *حتى أرى العين حزناً زارها الرمد
-إنها جميلة إن كانت كلها كهذا المطلع!
-لقد كتبتها عندما قتل والدي رحمه الله 0
-قتل00؟لقد قلت لي أن والدك توفي فظننتها ميتةً في الفراش؟!
-لا00لقد قتل غدراً00 قتله اللصوص قبل عام ونصف!
-وكيف قتل؟!
-قتلوه عنوةً00فقد كان مسافراً إلى فلسطين بقافلة صغيرة، ومعه أموال طائلة وحرس كثير، ففاجأه لصوص قبعوا له ولرجاله على مسافة نصف نهار من بغداد وقاتلهم لكن اللصوص استطاعوا قتل رجاله وتعقب من فر منهم حتى أجهزوا عليهم جميعاً ونهبوا المال!
-وهل علم الناس بذلك00وهل عرفوا أحداً من اللصوص؟
-نعم00 فقد علمت أن أعرابياً أخبر الناس0فقد كان قريباً من موقع القتال، وقد جاء موافقة ليجد عشرات القتلى وآثار القتال،فأسرع إلى بغداد وأخبر الوالي والشرطة، لكن أحداً لم يعرف من قام بهذه الجريمة!
-هل كان المال كثيراً؟
-لم يخبر والدي أحداً برحلته هذه ولا بمقدار ماله حتى الرجال الذين معه00لكنه قال لنا أنه سيبيع كل ما يملك من عقار وضياع وأنه سيحمل ماله إلى فلسطين بلادنا الأصلية0
-وأين كنتم؟
-كنا قد سبقناه قبل مقتله إلى فلسطين00 وشاء الله ألا نحمل معنا إلا القليل من المال0
واستقامت شعرات من غياث بن عبد المغيث وتصبب العرق غزيراً من جسمه واعتراه الوجوم،ولاحظ ذلك معبد وقال بأسى:
-لقد أثقلت عليك وعلى نفسي يا سيدي بهذه القصة الحزينة0
فقال غياث محاولاً استدراجه للكلام:
-كلا00فقد سمعت بمقتل رجل بالغ الثراء من أهل بغداد أسمه ذاهب المقدسي00وقصته شبيهة بقصة مقتل والدك غاية الشبه!!
-ذلك أبي00ذاهب المقدسي هو أبي وقد تناقل أهل الأقطار قصته لغرابتها وكثرة من قتل فيها من الرجال!
-لكنك ذكرت لي أن أسمك معبد بن عيسى؟!
-نعم00 فقد أعتادت جماعتنا أن ينسب الرجل إلى جده خصوصاً عندما يكون ذائع الصيت00 وبهذا يكون أسمي معبد بن ذاهب بن عيسى المقدسي0
فقال غياث مناوراً لمعرفة كامل القصة:
-لقد ظننت والدك من أهل بغداد00 فكيف جاء إليها؟
-لقد قدم والدي إلى بغداد تاجراً قبل ستة عشر عاماً00وكنت صغيراً حينها00وعمل بجد في تجارات كثيرة منها القماش00 وصارت له قوافل تروح وتجيء ببضائعه من فارس والشام وغيرها00 وقادته التجاره إلى أكابر الناس وتوصل إلى الخليفة وصار من جلسائه00 وكان مقبولاً حسن الحديث فقربه الخليفة وأدناه ،وصرت أجلس في دكانه عندما يكون غائباً وتعلمت الحساب والبيع00وأحببت بغداد حباً فاق حبي لبلادي فلسطين0وصار الخليفة يستعمل والدي في بعض شؤونه،ويغدق عليه المكافآت فأثرى،وتحصلت له عنده بعض الضياع والدور والعقار0ولكن بعض جلساء الخليفة حسدوا والدي على حظوته ومكانه من الخليفة وظنوا أنه سيجعله والياً على بعض المدن مما يطمحون هم إليه، فسعوا بالوشاية والمكيدة بينه وبين الخليفة حتى جفاه وأغلظ له القول وطرده من مجلسه، فتأثر والدي لذلك غاية التأثر، وعاف بغداد والعراق كله وعزم على الإنتقال إلى فلسطين بأمواله وأسرته00 ولقد حزنت لذلك كثيراً0 وحَمَلنا مع بعض المتاع والمال إلى فلسطين وطفق يبيع ضياعه وعقاره00ووصلنا إلى فلسطين وأكترينا بيتاً قريباً من أخوالي ومكثنا بضعة أشهر،وجاءنا رسول من والدي برقعة مختومة أخبرنا فيها أنه باع ضياعه وكل عقاره وبضاعاته وأشترى بها ذهباً وأنه سيحمله على بعض الجمال وسيحرسهم فرسان استأجرهم لذلك، وأنه سيخرج متخفياً وسيصل إلينا في أقل من شهر،وأخبرنا ألا نعلم أحداً بمسيره0ومكثنا بعد ذلك شهرين، وساورنا القلق وطفقت أتلقى كل قادم من بغداد فلم أسمع عن والدي شيئاً، حتى جاء ذلك اليوم الذي قدم فيه أحد أقربائنا من بغداد ليخبرنا بمقتل والي وسرقة أمواله، وقتل عبيده وكل رجاله على يد جماعة من الفتاك، وقال لنا أنه تولى بنفسه غسل والدي ودفنه0
ولست في حاجة إلى أن أخبرك أي حزن وأسى حل بنا وكيف أنقلبنا في شهر واحد من الغنى الواسع والثراء الطائل إلى حال من الفقر والمسكنة؟ورجعت أنا إلى بغداد مع أهلي الذين ما وسعهم إلا الإتيان معي فلا عائل لهم غيري0واستفدت من معرفتي بأمور البيع فعملت عند صاحب أقمشة0
-وهل تعرف أحداً ممن قتل والدك أو سرقه؟
-لو كنت أعرف منهم أحداً لقتلته قتلاً!
قالها بحماس ظاهر00مما دعا غياث إلى أن يسأل بمكر:
-وهل تجيد القتال؟
-لقد تدربت على المبارزة0
-وكيف علم اللصوص بخروج والدك وأنه يحمل ذهباً؟!
-هذا ما يحيرني!!وإن كنت أشك في صاحب لوالدي!
-وما الذي يحملك على الشك فيه؟
-لأنه كان مقرباً من والدي00 ولم يكن يخفي عنه شيئاً من أسراره00وكنت أنا آراه شريراً00وكلما حذرت أبي منه سخر مني،وحذرني بدوره من سوء الظن!
-ولماذا كنت تراه شريراً؟
-لأن والدي عرفه في مجلس الخليفة00 وحصلت بينهما المزاورة بعد ذلك00 وقد سمعته أكثر من مرة يذكر والدي وما فيه من النعيم على سبيل الاستكثار والحسد0وقد استنقض والدي بحرة الخليفة وهو غائب، وكادت الفرقة تحل بينهما لولا تسامح والدي وحسن ظنه0
-وسكت قليلاً ثم قال:
-ومما زادني شكاً فيه أنه قبل رحيلنا بأسبوع كنت عائداً من الدكان فرأيته في درب ضيق قذر مشهور بكثرة الفتاك واللصوص،يخاطب ثلاثة رجال كريهي المنظر، وسمعته يذكر أسم والدي ويتحدث بصوت لم اسمعه لكني التقطت من كلمات مثل:الذهب00الجمال00السيوف00وأختبأت لعلي أسمع المزيد ولكن الرجال تفرقوا!
-وهل أخبرت والدك بذلك؟
-نعم00فلم يزد على أن أمرني بالذهاب إلى النوم!
وسأل غياث سؤالاً يعرف جوابه:
-وما أسم هذا الرجل؟
-اسمه كريه كصاحبه!!اسمه حنظلة0
-ألم تحاول تتبعه بعد مقتل والدك وعودتك من فلسطين؟
-فعلت00وسألت عنه وقيل لي إنه في السجن0
فسأل غياث بلهفة:
-ولماذا سجن؟؟
-لا أدري!
وطال الصمت بينهما، ورأى معبد بن ذاهب جبين غياث راشحاً بالعرق فقال:
-لنترك مامضى00 ولننظر إلى دفاترنا0
فقال غياث بصوت كالحشرجة:
-لا00 ليس اليوم يامعبد بن ذاهب00 أحس بالتعب0
وقام معبد مستأذناً بالإنصراف ومضى تاركاً غياث يكاد يخترق الأرض بنظراته وبعد مدة طويلة خلع عمامته عن رأسه متخففاً ومسح شعره إلى الوراء00 ورغم إعتدال الهواء وبرودته إلا أن العرق عاد يتدفق على ظهره ويبل ثيابه، فقد أستعاد هذه القصة التي تثقل قلبه بالوجع00 واعتراه شعور غريب00 شعور بالخوف00من شيء قادم00 لم يكن خائفاً من حنظلة00 ولا من معبد00 ولا من أي من البشر00كان خائفاً من شيء هائل يتململ بداخله0


الفصل الحادي عشر

إذاً فهو معبد بن ذاهب المقدسي00المالك الشرعي والحقيقي لهذا البستان،وهذه الزروع وهذا القصر00 وهؤلاء هم ورثة ذاهب المقدسي التاجر المغدور0
وأحس غياث بعمق الإمتحان الذي وقع فيه، وشدة البلوى التي تلبست به،وكأن الحوادث على أتفاق فحين جاء شرف الدين بتوعيته وعظته انسل الفجور من نفسه فأنتهى عن الخمرة وترك تضييع النبيذ، ولزم الصلاة والعبادات التي كان قد ضيعها، وجره ذلك إلى التفكير فيما يتمتع به من النعمة وأن ثروته التي يتربع على عرشها ليست له00كأنه بذلك كان يسوي الطريق لمعبد وأسرته ليأتو ويطالبوا بأموالهم ويصفعوه بفقرهم وعوزهم بدون أن يشعروا00ويصرخوا في وجهه طالبين أموالهم والثأر لأبيهم المقتول0
وسولَّت له نفسه أن شرف الدين وأسرة ذاهب المقدسي كلهم متآمرون ضد نعمته، وأنهم قد أتفقوا على إشقائه من جديد00 واشتعلت نفسه بالحيرة فشرف الدين قد فضحه وقام بتعريته وتجريده من هنائته المغشوشة00 وسكره الذي كان يغيب فيه، وأسرة ذاهب المقدسي جاءوا ليتخطروا أمام ناظريه طوال النهار ويذكرونه بأن المال لهم، وأنه قد أستولى عليه،ويهتفوا له بلسان حالهم بأنه ليس سعيداً كما يضن!! لأنه سارق وظالم، ولن تحصل له السعادة التي يطلبها حتى يرجع لهم أموالهم!واعتقد غياث أن شرف الدين قد حطم نصف سعادته وحطم معبد وأسرته النصف الباقي0
ومسَّه الألم وشعر بغصة في حلقه00 أحس بأنه مضطهد ومحارب، وأنه خائر القوى فأنتشى بعزةٍ واهمة،وركبه الشيطان فقرر أنه لن يتركهم يجهزون عليه00 لقد حارب كالأبطال في بيت الطين قرب النهر00 قاتل سعيد بوحشية00 وصرع الرجال بحربته وسيفه00 فهو قوي 00وقوته في إرادته00 وقد دفن الضعف في الممرة00 ولن يسمح لتلك الأشياء الكريهة أن تنبعث من جديد00 المال له واحد00 وهو ليس ظالم ولا سارق00 ولم يقتل ذاهب المقدسي ولا أحداً من رجاله00 إنما قتل حفنة من اللصوص لايستحقون الحياة00 وأخذ المال لأنه يستحقه0
وتخيل أنه عظيم وجبار00 فقرر أنه سيقتل سعيداً في سجنه ولا داعي لأن يرحمه00وسيعتقل مروان لوظفر به00 وسيقتل حنظلة00و00سيعود لحمل السوط ويلوّح به في الهواء كتأكيد للسطوة والمجد00 وسيعامل معبد بجفاء ويرجع الكلفة بينهما بل لن يعمد إلى مقابلته00سيوكل أمره إلى سريع00وربما طرده هو وأسرته!
وتنفيذاً لذلك فقد صاح بأحد خدم القصر، وطلب منه استدعاء سريع، وبعد مدة عاد الخادم ليقول أنه لم يجده في حجرته00 فأرسله للبحث عنه في أنحاء الزروع وجلس يفكر0
لكن هذه الأموال حقاً ليست له00لوكان يجهل صاحبها لكان ذلك عذراً له وحجة يتشبث بها00 لكن صاحب المال موجود وقريب! وبهذا يكون سارقاً00 وتذكر شيئاً كان يقرأه من القرآن في صلاته مما علَّمه شرف الدين، وقرأ في جلسته تلك فواتح سورة المطففين00 قرأها بصوت خافت كأنما يخشى أن تتأثر بها نفسه ولما بلغ آية}ألا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ(4)لِيَوْمٍ عَظِيمٍ{هزته عظمة الآيات،وتخيل نفسه يوم القيامة عند رب العالمين، وقد أخذه ذاهب المقدسي وأولاده يطالبونه بحقهم00وخاف00 وتجاذبته لوازم التقوى وخشية الله وشهوة المال المسيطرة عليه!الدين يشرح صدره والذهب يغريه!!
وتحركت خبيئته السيئة،فنفض رأسه وقام يعلل نفسه بالبحث عن سريع00 كان يريد الفرار من لسع التأنيب،ووطأة الآيات التي قرأها!!
قابل الخادم أثناء تجواله وسأله عن سريع00فأخبره أنه بحث عنه في كل مكان ولم يجده!فأستغرب غياث تغيب كبير عبيده الذي لم يتعوده منه،وتذكر البيت المهجور فأطمأنت نفسه فلابد أن سريعاً قد ذهب بالطعام إلى هناك كعادته إذا حل المساء00وعنَّ له أن يزور محبس سعيد لإلقاء نظرة00وما أن لاح له الجدران الحجري من ىخلف غابة السدر التي يقع في وسطها دهش0 وداخلته الريبة فالباب الخارجي كان مفتوحاً على مصراعيه!!وتوقف غياث يتأمل ما حوله فتعليماته إلى سريع أن يغلق أي باب حيث يكون داخلاً أو خارجاً!
دخل غياث بحذر وزادت دهشته حين وجد الباب الداخلي مفتوحاً أيضاً!!عندها لم يشك بأن شيئاً خطيراً قد حدث00وتأكد له ذلك، حيث وجد سريعاً ملقى على الأرض، والدماء المتيبسه قد غطت وجهه ورأسه!أما سعيد فلم يكن موجوداً00وكانت السلسة مقطوعه والقيد ملقي بالقرب من سريع!!
تحسس غياث عبده فوجده حياً00 فأدنى منه الماء ورشه حتى أفاق واستقام جالساً00 ولما عاد وعيه كان أول شيء قاله:
-لقد هرب السجين يامولاي!
تأمل غياث السلسة فوجدها قد قطعت بآلة لقطع الحديد فتساءل:
--كيف استطاع الخبيث قطع السلسلة؟
فأجاب سريع بصوت كالأنين:
-لقد قطعها بهذا المنشار!
ومد إلى سيده منشاراً متيناً لشذب الحديد، ثم قال متسائلاً بدوره:
-لكن من الذي عرف مكانه وأحضر له الآلة؟!!
ولم يجب غياث00وساعده ليذب إلى حجرته حيث أخبره بأن سعيداً فاجأه في الظلام وضربه على رأسه فشجه وهرب0
وعلق غياث قائلاً:
-لتنم أنت الآن وسأستعيد ذلك الشقي قريباً0
وقال في نفسه إنه إن ظفر بسعيد فسيقتله هذا المرة بلا رحمة0 ثم ذهب إلى أريكته خارج القصر وجلس يفكر في هذه المصيبة الجديدة التي نزلت عليه00 وكيف يتصدى لشر هذا الفاتك الذي هرب من محبسه، والذي لا ريب أنه سيحضر من جديد للانتقام، وقد أججه الحقد والسجن الطويل00فلابد من الإحتياط ووضع حارس للقصر طوال الليل00وتذكر أزمته التي أنفجرت بظهور ورثة ذاهب المقدسي فأمتلأ قلبه حقداً على سعيد واشتعل حماساً للأجهاز عليه00 إرضاء لجبروته الذي استطال فجأة00 وقهراً لعاطفته التي ظنها سبب كآبته وخوره!!وتذكر فجأة شرف الدين وتخيله ينظر إليه عابساً00وكم استعذب تلك الصورة،فقام وتوضاء من حوض شجرة قريبة وصلى صلاة المغرب شاعراً بالتناقض الصارخ بين ذلك وبين أحقاده وشروره المستفيضة، ثم جلس إلى أريكته ثانية وقد إمتصت الصلاة الخاشعة شيئاً من عنف أفكاره0
وقام ليذهب إلى القصر00 لكن فاجأه من الخلف جسد قوي انطرح عليه!!وأحس بشيء بارد حاد يوضع على عنقه وخاطبه صوت من فوقه:
-إذا صرخت أو تحركت قطعتُ عنقك بهذا الخنجر!
وقيَّد المتكلم يديه من خلف ظهره، وأحكم ربطهما وأمره بالوقوف ثم خاطبه بخشونة:
-سر أمامي00وإذا تكلمت أو حاولت الهروب فستعلم ما يحل بك!
وسار غياث كما طلب منه00 ودفعه الرجل أمامه في ظلام الليل، وظلا يسيران بصمت حتى وصلا إلى النهر وهناك توقف الرجل، ثم أمسك بثوب غياث من جهة كتفه وأداره إليه بعنف ليواجهه00كان سعيد00 وكان محنقاً00في عينيه يبدوا زهو الانتصار واضحاً جلياً00 يكاد يشج وجه غياث بنظراته التي تغلي حقداً!
وكان غياث أول المتكلمين:
-إذاً فقد استطعت الهروب00؟!
لم يعلق سعيد00 بل سأل في حنق:
-هل استخرجت الذهب من النهر؟فقال غياث متجاهلاً سؤاله:
-ليتني أعرف كيف حصلت على المنشار؟!
رفع سعيد قبضة يده في الهواء ولكم غياث علة وجهه لكمة ًأطاحت به في أوحال النهر، ثم جذبه بعنف ليقف ثانية وصرخ في وجهه:
-إذا سألتك فأجب00 هل أستخرجت الذهب من النهر؟
فقال غياث وهو يبصق دماً:
-لو كانت يداي طليقتين لعرفت كيف أرد عليك أيها الوقح!
استشاط سعيد غباً ولكمه ثانية،فلما تهاوى ليسقط أمسكه من صدره وصاح به:
-هل أستخرجت الذب من النهر؟
فأجاب غياث بصراحة تبعث على التصديق:
-لا00 إنه مازال في القاع00فعلق سعيد:
-كما توقعت فلم تحتاج إليه إلا الآن0
ثم كبَّه على وجهه في قارب صغير به مجدافان ودفع القارب إلى عرض النهر وصعد إليه،وبدأ يجدف بإتجاه الجنوب وجلس غياث منتصباً في مقدمة القارب الذي كانت الرياح المواتية تزيد من سرعته0
لم يشك غياث في أن سعيداً عاد إلى مطلبه الأول00الحصول على بقية الذهب الذي تقبع منذ سنة ونصف في قاع النهر00وتساءل غياث هل سيقتله بعد الحصول على مايريد أم لا؟إنه لا يدري عما يدور في خلده،فقد مضت ساعتان دون أن ينطق أحدهما بكلمه00ولم يكن يقطع الصمت سوى صوت المجاديف وهي تضرب صفحة المياه المعتمة بحنق00 وبدأ لغياث أن سعيداً لا يتعب أبداً، فهو لم يفلت المجدافين لإراحة يديه والنفخ في كفيه00بل ظل يجدف بعبوس وبطريقة عنيفة كأنه يريد تكسير المجدافين لا الوصول إلا مكان معين!!
حرك غياث يديه اللتين أوجعهما الحبل الغليظ وعدل من جلسته غير المريحة عدة مرات وأضجره الليل والصمت فقال وقد لوى شفتيه نكداً وعبوساً:
-أين ستذهب بي؟
فلم يجبه سعيد بغير نظرة تفيض بالاحتقار والحقد،فقال غياث:
-كان الأولى بك أن تواجهني كالرجال00لكنك أثرت الغدر فأخذتني وأنا لا سلاح معي!
ولم يزد سعيد على الصمت فقال غياث محاولاً إستثارته:
-لقد ساعدتك الشياطين!!وإلا كيف قطعت تلك السلسلة؟! وكيف تخلصت من ذلك القيد على قوته؟!!
ولما لم يجبه سعيد بشيء انفجر غاضباً وصرخ:
-أأصم أنت؟!تكلم قطع الله لسانك!
وجاءت النتيجة على غير ما أراد غياث، فقد ترك سعيد أحد المجاديف00 وقذف غياث بدلو ثقيل من النحاس فلم يخطيء رأسه وسال خط دقيق من الدماء من جبينه وتوقف على أرنبة أنفه فهدأت ثائرته وقال بهدوء وحزن:
-أهكذا فعلت بك أيها الشرير؟ كان عبدي يحمل لك الطعام وأنت في القيد،وكان يكنس المكان الذي أنت فيه00 ولم أكن آكل شيئاً من الفاكهة والعنب إلا وأبعث لك بمثله!
تكلم سعيد أخيراً وقال وهو يصرُّ على أسنانه محنقاً:
-تمتن ُّ علي َّ بطعام لا يكلفك نصف درهم وأنت قد أستوليت على أموال لا تحصى!! وتحتبسني عاماً ونصف العام كاكلب ثم تدعي أنك صاحب فضلٍ علي؟!
-لقد كنت في حوزتي ولو شئت لقتلتك!
-ومن زعم أنك لم تقتلني00 لقد كنت تقتلني كل يوم!
-لقد تركت حياً شفقة بك00 وكان السجن خير مكان لك0
-ليتك قتلتني وأرحتني!
-لقد قلت لك إني لا أحب القتل0
-أما أنا فأحب القتل!
قالها بنظرات مرعبة كادت تهز فؤاد غياث الذي قال متجلداً:
-أنا لا أخاف منك00 ولاكن أريد أن أعرف أين ستذهب بي؟
وعاد سعيد إلى صمته00 وإلى دفع القارب بنشاط وعبوس ومد غياث رجليه وألقى برأسه على حافة القارب بأسترخاء00 يتأمل النجوم الزاهرة00 وأجتذبه بهاء القمر وجمال السماء وأنسته القبة الزرقاء ومصابيحها الهائلة أي خطر هو فيه وأغمض عينيه مستسلماً للنوم0
لا يدري متى نام00 ولكنه استيقظ والضياء يملأ المكان00 وأنسام لذيذة تنعش الروح كانت تهب بين الفينة والأخرى 00ورأى سعيداً وقد نام في مكانه والقارب عالق بضفة النهر00وتلفت حوله فعرف المكان00 فهذه هي الحجرات الطينية، وقد أتت النار على سقوفها،وهذا هو النخيل اليابس لم يتغير فيه شيء00كان هذا هو المكان الذي شهد اللقاء الأول بينه وبين اللصوص0
وتأمل سعيداً00 إنه نائم00فلماذا لا يهرب؟00وحرك جسمه محاولاً النهوض ففوجئ بنفسه مثبتاً بإحكام إلى أحد ألواح القارب،واستيقظ سعيد وشرع حالاً في العمل00وخاطب غياث بخشونة:
-ستنزل الآن إلى الماء00 وعليك أن تخرج الذهب الذي قذفت به هنا عندما كنت مع مروان0
-أنت مجنون!الوقت بارد وإذا نزلت إلى الماء فربما هلكت من البرد!؟
-لايهمني ذلك!
وجعل سعيد يعمل بحماس فقطع الحبل الذي يربط غياث بالقارب وهم بأن يقول شيئاً فسبقه غياث بقوله:
-أريد أن أصلي الفجر0
فرد سعيد بسخرية من غير أن ينظر إليه:
-منذ متى بدأت أصلي؟!
-لاشأن لك0
وبدون أن يبالي به قفز خارج القارب،ووقف على اليابسة وقال بلغة آمره:
-حل وثاقي 00أريد أن أتوضأ0
-حسناً00
قالها سعيد وهو يتقدم إليه،وبدلاً من أن يحِلُ وثاقه قطعه بالخنجر فحرر غياث يديه،وجعل يحركهما ويزيل تصلبهما00ولكن سعيداً ألصق رأس خنجره الطويل في ظهره وقال:
-أصعد00وجدف00 عليك أولاً أن تجد الموقع الذي فيه الخرج ،ثم تنزل إلى القاع للبحث عنه 0
وأمام وخز الخنجر صعد غياث القارب وهو يقول:
-لابد أن النهر جرفه وغير موقعه0!
-لو جرفه النهر فلن يبتعد كثيراً0
وجلس غياث إلى موقع المجاديف، وجعل يسير بالقارب يميناً وشمالاً ويتأمل الضفة الشرقية والغربية محاولاً تذكر الموضع،الذي كاد يغرق فيه مع مروان0 ثم توقف في منتصف النهر وقال:
-أظنه هنا00
فَبانَ البشر على ملامح سعيد وتناول حبلاً متيناً0وأمر غياث أن يلفه حول وسطه00فوقف غياث وربط الحبل على بطنه،ولما فرغ ركله سعيد برجله ليسقط على صفحة المياه الهادئة 00صارخاً من شدَّة لسع الماء البارد وأمسك سعيد بطرف الحبل وقال:
-هيا00أنزل إلى القاع وأبحث عن الخرج00
وبعد تردد قصير فعل غياث ما طلبه سعيد،فأخذ نفساً كافياً ونزل إلى القاع المظلم يتلمس أرض النهر وصخوره ولدقائق،ثم يخرج ليلتقط أنفاسه ويعود البحث من جديد00وتكررت المحاولات وغياث يقاوم جريان النهر وبرودة الماء00 ويبحث جاداً عن خرج الذهب لكنه لم يظفر بشيء00وأخبر سعيد أنه لم يجد الذهب فأستشاط هاذا غضباً وصاح:
-يجب أن تجده00 إن حياتك مرهونة به!
ثم جذب الحبل المربوط في وسط غياث بعنف حتى ألتصق بالقارب وقال له وهو يضغط أضراسه،ويتحسس بخنجره عنق غياث المتين:
-إذا لم تجد الذهب00فإنها نهايتك0!
فسبح غياث إلى موضع آخر00وجدف سعيد خلفه وهو ممسكٌ بالحبل حتى لايهرب غريمة00 وبدأ البحث من جديد00 ومضت مدة وغياث يغوص إلى القاع ويمسحه بيديه ورجليه،مثيراً سحاباً من الطين الراكد يزيد من ظلمة القاع وقتامته00ثم يصعد ليلتقط أنفاسه،واعتاد جسمه برودة الماء مع أن أسنانه كانت تصطك تحت وطأة البرد والتحفز00 ثم أنتقلوا إلى موضع أخر دون أن يجدوا شيئاً00 ثم أصبحوا ينتقلون إلى مواضع عديدة من النهر00 وكانت اللهفة بادية على ملامح الأثنين00وبَانَ الإعياءُ على غياث00وبإرتفاع الشمس بدأ يجد بعض الصناديق والشِباك والحبال التي قذف بها عندما كان برفقة مروان،فأشرق الأمل في نفسه وعلم أنه أصبح قريباً من بغيته00واخيراً لمست يداه شيئاً صلباً،فتحسسه وعرف فيه خرج الذهب00وكان الطين يكاد يطمره00فحاول رفعه فلم يستطع بسبب المياه00فصعد إلى السطح وهتف لسعيد متصاعد الأنفاس:
-لقد وجدته00ولكنني عجزت عن رفعه لأنه ثقيل والمياه ترفعني!فقال سعيد بصبر فارغ:
-حل الحبل من وسطك وأربطه في الخرج0
وشرع غياث في ذلك لكن سعيداً صاح به وقد أدركه الحذر:
-كلا00أنتظر00أربط هذا الحبل0
وقذف إليه بحبل أخر ربط طرفه في القارب00بينما تناول غياث الطرف الثاني منه،وغاص به،وربطه في صرة الذهب الثقيلة ثم صعد إلى السطح وتعمد هذه المرة أن يكون قريباً من القارب، ولم يلحظ سعيد ذلك بسبب نشوته وهو يجذب الذهب من أسفل النهر0
لقد أعتزم غياث أن يهز القارب لعل سعيداً يسقط أو يقبل إليه فيجره إليه ثم يقتتلان في الماء00كانت تلك محاولة أخيرة للنجاة00
استخرج سعيد الأموال الغارقة بفرحة طاغية وركع فوقها يزيل عنها بعض الطحالب العالقة،ويحاول فتحها مذهوللاً عن خصمه الذي غاص وتسلل تحت الماء حتى صار إلى الجهة الثانية من القارب بحيث لايراه سعيد،>>>>>ولااااكن ياسعيد ما نقول إلى يافرحة ماتمت<<<<<وبحذر أمسك حافة القارب بيديه وثبت رجليه على جانبه ثم هزَّه فجأة وبعنف فأستقام سعيد واقفاً وغياث لا يكف عن التأرجح بالقارب وتماسك سعيد حتى لا يقع00وكما توقع غياث فقد أقبل عليه سعيد وقبل أن تصل يده إلى جراب خنجره ألتقط غياث طرف ثوبه وجرَّه بشدة إلى الماء تمهيداً للعراك00صرخ سعيد صرخة وحشية أفزعت غياث00وجعل يتخبط في المياه بعنف وعشوائية00وبخفة تعلق غياث بالقارب وصعد إليه00
كانت نتيجة محاولته تلك ناجحة أكثر مما توقع!!فتمتم متعجباً:
-إنه لا يجيد السباحة!!واعمل يديه في حل الحبل الغليظ المربوط حول وسطه،أما عينيه فكانتا مثبتتين على سعيد الذي كان يطفوا ويغوص ويصرخ مستغيثاً00منادياً غياث بأنه لا يعرف كيف يسبح!!ثم كلت يداه وتحول صراخه المستغيث إلى غرغرة خافته حتى أجتذبته الأعماق القائمة بلا رحمة!!
فكر غياث سريعاً00 وبعد تردد قصير قذف بنفسه إلى الماء قابضاً طرف الحبل00وتحت الماء جعل يعوم باحثاً عن سعيد كما كان يبحث عن الخرج ولم تطل المدة حتى وجده مستلقياً على قاع النهر مثل النائم فربط الحبل حوله00 ثم صعد إلى القارب واجتذبه إلى الأعلى، ورفعه إلى القارب وتفقده قليلاً ثم قال متمتماً:
-لقد وصلت إليه متأخراً!
وجعل يتأمله في نكد عظيم00 وجدف إلى الشاطيء00ثم سحب الجثة إلى الرمال الدافئة وهو يقول بخفوت:
-سيأتي إليه من يدفنه0
ثم صعد إلى القارب وجعل يجدف ناحية بغداد00ساهماً00 ينظر في البعيد00حيث الأفق الصافي00مهموماً00يتأمل الطيور الطافحة في السماء ويحسدها على الحرية!لقد أحس في هذه اللحظة أنه مسجون00مقيد00مربوط إلى رغباته وشهواته كالبهيمة التي تعد للذبح!!
ظل يجدف ولم يُلقِ نظرة واحدة إلى الأموال التي تقبع تحت قدميه00
لقد أحب الدين والإستقامة ووجد سلوته في الصلاة00لكنه يشتهي المال والمجد00واليوم أسمعه موت سعيد نداء العالم الأخر الذي سينتقل إليه يوماً ما00وذكره بالحقيقة التي عجز عن الفرار منها00حاول استرداد عقله الشارد00 لكن بصره ظل عالقاً بالأفق البعيد00وذهنه سجين المشهد المفزع00غرق سعيد00وهو يتشبث ببقايا الحياة00كيف تدفقت المياه بسهولة إلى جوف ذلك الوحش الكاسر00وكيف دوى صراخه المتغرر بالماء وهو يكافح من أجل نسمة هواء00لم يكن ذلك أول مصرع يراه00 لقد رأى القتال العنيف في بيت الطين وساهم فيه بنصيب كبير00لكن موت سعيد كان موقوتاً00 جاء وقد تغلب عليه هاجس الموت والرحيل إلى الدار الأخرة!فرأى عياناً هوان الدنيا واحتقارها00ورأى سطوت المنون كيف أنهت جبروتاً عريضاً في لحظات 00وخاف00 وازداد خوفه من هبوط الليل00وتمنى لو كان شرف الدين بجانبه يقرأعليه من القرآن ويعظه ويذكره بالأخرة00شرف الدين ربان سفينته التي أنتشلها من قبضة الأمواج00 والذي كان ينهاه عن الدنيا والفساد والخمر ويذكره بأهوال الآخرة00لو يراه الآن وقد أكتسحت ذكرى الموت والرحيل تفكيره00وضجت بها نفسه المكلومة!كم يحس الآن بضمأ شديد إلى الموعظة والآيات والصلاة0
وجعلته هذه الخواطر يجدف بسرعة في لهفة إلى الوصول!
عندما وصل إلى مزرعته الكبيرة كان الليل قد أوغل في المسير00فألقى أول نظرة له على الذهب ثم حمله وقفز من القارب00كان مبتلاً00مصك الأسنان00منتفض الجسد من شدة البرد00كان البستان في سكون تام00 والجميع قد أووا إلى مساكنهم00وأجتاز الباحة المؤدية إلى القصر يكاد يسقط من الأعياء وقبل أن يدخل إلى القصر توقف والتفت إلى بيت أولاد المقدسي00 كان المسكن الصغير مضاء ورغم بعد المسافة إلا أنه أحس أنه يقف على عتبته00 وتدلت شفته السفلة لذلك وفاضت عيناه بالدموع 00وذلك آخر مايذكره!
ووجده بعض الخدم ملقياً عند الباب فحملوه إلى فراشه ليمكث يومين كاملين شوته الحمى فيهما شيَّاً00لم يكن يشعر بما حوله،فقد تضافرت المياه والبرد وفترة التحولوالتغّير التي يمر بها على إنزال الحمى به، وهب سكان القصر والبستان وعلى رأسهم سريع ومعبد وعطر على العناية بسيدهم والإحاطة به00لم يقف00بل كان يهذي بالكثير مما تضج به نفسه00 وكانت تفلت منه كلمات لم يفهم المحيطون به منها شيئاً00كان يذكر أسم سعيد وبيت الطين00وخرج الذهب00 وقاع النهر!!واشد ما أثار أستغراب معبد أنه تلفظ باسمه واسم حنظلة!كان يطلب الدفء والأغطية، ورغم كثرة ما وضع فوقه إلا أنه ظل يرتعش وبعد غروب شمس اليوم الثاني استيقظ وقد زاولته الحمى00 ولم يكن بالحجرة أحد زكانت العتمة تمنعه من رؤية الأشياء00 ولما ألفت عيناه الظلام،كان خرج الذهب أول شيء رأه00لم يفتح ولم يتغير فيه شيء00ورغم بياض حاضره إلا أن بقايا من قتامة الماضي أوهمته أنه مازال يعشق الثراء، ويحفل بالدنيا،فأخذ الخرج ودسَّه معه في الفراش بلهفة،وعاد إلى النوم من جديد!
نام إلى منتصف الليل00ثم أستيقظ من فراشه مثخناً بالحزن00مشوش التفكير00كانت هموم الأيام الماضية تعصف به00وقد تفجرت فيه العاطفة المكبوتة وفطرة الخير الأصيلة التي حاول رفسها والإجهاز عليها تحت وطأة الثراء!!وترجحت عنده كفة التوبة وطلب الأخرة، واجتمعت تلك الأشياء لتواجهه في عنف وتلطمه بالحقيقة00 أنه سارق ومجرم،ويجب أن يرد الحق إلى أهله ويتجرع مرارة الفقر القديم على أن ينعم بسعادة التقوى0
وإلتهمه سؤالٌ محرق00هل هو شرير فيواصل طريقه الأسود00أم طيب متدين فيقف ويرجع؟!
ولكي يحصل على جواب استرجع ما حدث له00 لقد أنقذ مروان وقذف بنفسه في المياه لإنقاذ سعيد وأكرمه عندما كان في أسره ولم يعمد إلى قتله00وواظب على الفرائض وترك الخمر00فهو في الأصل صالح وطيب السريرة00بل خبيث وشرير00فقد عق أبويه،وسلب الصياد صاحب الحمار واستولى على أموال ورثة المقدسي00وتسبب في إفقارهم!
وأعياه الجواب00وتداركه الخور00 وتعثر في حطام الضلالة المتبقي00وذكرى الفاقة السوداء00فأخفى الخرج تحت فراشه، وظن أن ما يجول بنفسه خواطر عابرة، أوحاها ضعف مؤقت00فقرر القضاء على كل من تآمر ضد سعادته،وصمَّم على طرد معبد وأسرته،لأن وجودهم سبب ما يعتريه هذه الأيام00وتخيل أنه جبار00فحمل السوط مهتاجاً وخرج إلى بيت آل المقدسي ليطردهم00خرج نصف عاقل00متخففاً من الثياب00مزبداً كالجمل الهائج00 ولم يعترض طريقه سوى هواء الليل البارد الذي كان يلسع صدره العاري ويرفرف بسراويله الواسعة00وشدد قبضته على السوط تأكيداً لما سيفعل00 وعندما أقترب من البيت ألفاه مضاءً في دجى الليل00 وأصوات ساكنيه من الداخل تضحك في حبور00 وصوت سيدة المنزل تداعب أحد أطفالها في مرح00فخمد بركانه فجأة كما ثار فجأة!! وخارت عزيمته00 وقهرت ثورته تلك الأصوات البريئة السعيدة التي لا تعلم عن عاصفته شيئاً!!
وأدركه تعب ثاهر فسقط السوط من يده00وأستند إلى جذعنخلة قريبة00وناك وجد الجواب للسؤال الذي أحرقه00ولفت بقايا الظلام في داخله آخر أنفاسها00ظل مستنداً على جذع النخلة حتى أنهدَّمكانه في الحوض،كالجدار المهدوم وتكوم كا لأنكاض00 شاعراَ بمزيج من الحزن اللذيذ00وأنه قد هرب من سجنه الذي أرهقه طويلاً، وألت إلى أفياء واسعة!وأمتعته الوحدة والليل00وزالت عن قلبه الأثقال00وأحس بجدول القناعة يتدفق لطيفاً، ويروي في فؤاده جذور سعادة جديدة00حقيقة00وأحتبست في عينيه دموع غزيرة!
وطالت جلسته في الحوض، ولم يعده إلى واقعه سوى أصابع صغيرة00باردة وناعمة00لامست كتفه من الخلف كان ذلك أكبر أطفال ذاهب المقدسي!وفوجىء غياث به يقف خلفه ويثرثر في حبور:
-أنت الشيخ غياث!؟لقد رأيتك في شق الباب وكان الباب مغلقاً00أمي لاتدعنا نخرج في الليل00لكني قفزت من فوق الجدار!
ثم سكت وبدون أن ينتظر تعليقاً من غياث قال:
-أمي ومعبد وموسى يحبونك ويقولون أنك رجل تقي وكريم وتعطينا من الثمار والطعام00لقد كان عندنا مزرعة مثل هذه ولكن أبي باعها0
وقال غياث:
-ما أسمك؟
-ميمون00
-لماذا خرجت ياميمون في هذا الليل00؟ألا تخاف من البرد؟!
-خرجت عندما رأيتك00لم يرك إلا أنا!
أبتسم غياث إبتسانة حزينة،وقبض على الصبي وضم جسمه المهزول إلى صدره العاري وقال له:
-سارع إلى البيت وإلى أمرضك البرد0
ومضى الصبي متسلقاً الجدار الذي هبط منه سعيدٌ مغتبطاً بهذا اللقاء القصير مع السيد العظيم مالك هذه البساتين0
وتمتم غياث:
-ليتني أموت!!
ثم قفل راجعاً وقد أطلق العنان لدموعه المحبوسة فأنهالت كالمطر00
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://albetoul.forumalgerie.net
البتول
Admin
Admin
البتول


عدد المساهمات : 249
نقاط : 122472
تاريخ التسجيل : 26/09/2013
الموقع : الفردوس الأعلى إن شاء الله

رواية السجين يهرب... Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية السجين يهرب...   رواية السجين يهرب... Icon_minitimeالجمعة يناير 31, 2014 12:57 am


الفصل الثاني عشر
كانت الأيام التي تبعت تلك الليلة المحمومة التي أعتبرها غياث نقطة البداية في فجر حياته الجديدة00 حافلة بالأحداث فبعد خمسة أيام قاها غياث بن عبد المغيث في كثير من الصمت والتفكير الهادئ في مستقبل حياته الجديده،توصل إلى أنه لاحق له فيما ينعم به من المال وأن هذه الأملاك الواسعة والعبيد والزروع وحتى جاريته الأثيرة على قلبع عطر،كلها ملك ورثة ذاهب المقدسي0 وأن عليه أن يسلم لهم كل شيء00بما في ذلك النصف المتبقي من الذهب في الخرج0
لقد أمضى اظليام الأخيرة متأملاً في نفسه، وفي الشيء الذي يتدفق على قلبه فيكسبه الطمأنينه التي لم يعهدها في أيام فقره أو أيام ثروته!
لقد أعزم أن يصارح معبد بن ذاهب في كل شيء،ثم يمضي وحيداً خالياً00كما جاء وحيداً00وكره بغداد وجوارها وآثر أن يذهب للقاء والديه،وينطرح تحت أقدامهما ويسألهما الصفح،ثم يذهب إلى الثغور للجهاد في سبيل الله، فلم يعد شيء يهُّمه غير لقاء الله والرحيل عن الدنيا التي أكتشف مؤخراً أنها نواة الشقاء في حياته الماضية00وأعتزم أن يصلح مابينه وبين ربه00وأستولى عليه هم الأخره00 وبذل دموعه بسخاء أسفاً على أيامه الخالية0
وما كاد يصل إلى هذا الحد من التخطيط لمستقبله حتى أحدقت به الأخطار من جديد!!
فقد مضى في أحدى الصباحات الباكرة إلى البئر اليابسة التي قذف فيها بثيابه القديمة، وتدلى بحبل ونزل إلى القاع اليابس وبحث في التراب حتى وجد صرة ثيابه فأستخرجها وغسلها على شاطيء النهر00كأنه شاعرٌ أنه يغسل ماصيه0وجلس ينترها لتجف،ثم جمعها وأراد الذهاب،لولا أن أستوقفه وجه مألوف لديه فهتف في دهشة:
-مروان؟!!
وآسفه أن خنجره ليست معه00وقذف الصرة من يده وباعد بين رجليه أستعداداً للعراك00 لكن مروان خاطبه بصوت يفيض بالحزن لا بالشر:
-نعم مروان00صاحبك في تلك الحجرة!
-إذاً فقد نجوت!؟
-نعم00 لقد وصلت إلى بغداد وعالج الطبيب جرحي00 وقد صدقت ياغياث فالجرح قد أخترق البطن ولم يمس الأحشاء00 هل تذكر عندما قلت لي ذلك؟!
وتأمله غياث فوجده كما تفارقا تلك الليلة إلا أنه أصبح مشموط اللحية بالبياض0 وقال مروان:
-لقد قضينا معاً ساعات عصيبة00وكتبت لنا النجاة من بين الأخرين أليس كذلك؟
فرد غياث وقد زاولته الريبة لكنه لم يكن راغباً في مواصلة اللقاء:
-لقد مضت تلك الأيام بخيرها وشرها0
-لولا جهودك ياغياث لما كنت أنا من الأحياء!
-لست في حاجة إلى أطرائك يامروان00بقدر ما أود معرفة سبب مجيئك؟!
-جئت للقائك00 وهذا كل افي الأمر!
لم يكن بيني وبينك علائق ومودة00وقد مضيت أنا إلى سبيلي ومضيت أنت إلى سبيلك0
-قد لاتصدقني 00ولاكن لا تسيء بي الظن فتقف وقفتك هذه00 وتحسب أني جئت لقتالك من أجل ذلك الذهب المأفون!!
وسكت قليلاً ثم قال بنبرة صادقة امتصت كثيراً من توتر غياث وتجهَّمه0
-ياغياث 00أنت فتى شجاع وقوي، والذي سيقاتلك سيكون الخاسر في النهاية!
قلت أني لست في حاجة إلى إطرائك00؟
-لست في حاجة إلى إطرائي00ولكنك في حاجة إلى نصيحتي!
-وبماذا تريد أن تنصحني؟!
-أريد أن أحذرك من حنظل00 هذا ما جئت من أله0
-حنظلة!!وأين هو حنظلة؟
-حنظلة في بغداد00ولم يتبقَ من أعدائك أحدٌ سواه0
-وأنت؟!
-أنا لست من أعدائك ياغياث00أنا أحس بالولاء لك منذ كنا في بيت الطين، ولولا حنظلة مارأيت صفحة وجهي!
-وكيف عرفني حنظلة وهو لم يرني ولم يعرف أسمي؟
أحنى مروان رأسه إلى الأرض وقال متلعثماً:
-لقد أضطررت إلى أخباره بأسمك ومكان بستانك00
تخبره عني وعن مكاني،ثم تدعي أنك صاحبي وأنك تودني؟!!
-أقسم لك بالله أني ماكنت لأفعل لولا أن هاجمني ليلاً في بيتي بالبصرة00ووضع خنجره على عنق أحد أولادي وهددني بذبحه مثل الشاه إذا لم أخبره عن مكان الذهب والأموال00ولم أصدق أنه ينوي قتل الصبي حتى رأيته يجرح عنقه بحد السكين جرحاً صغيراً ليؤكد لي أنه عازم على تنفيذ تهديده!
-ومتى كان ذلك؟
-قبل شهر0
-وكيف عرفت أنت مكاني وأسمي؟
-أسمك عرفته عندما سمعتك تنطق به وأنت تقتتل مع سعيد00 ومكانك عرفته عندما رأيتك في بغداد موافقةً بعد أسابيع من ليلتنا تلك،وتتبعتك إلى البستان وسألت أحد مواليك فخبرني بأسمك كاملاً،ولكنني كنت قد عزمت على أن أدعك وشأنك إكراماً لك على مابذلت في سبيلي0
-ولكني لم أصنع شيئاً يستحق كل هذه التضحية منك؟!
-لا يهمني أن تشعر بمعروفك أو لا تشعر00 يكفيني أنني أعتقد هذا00ربما أكون لصاً وأحمقاً غبياً ياغياث ولكني لست وقحاً ولا جاحداً!
وفي خليط من المصانعة والتصديق قال غياث:
-أنت رجل طيب يامروان00سأعمل بنصيحتك00لكن قل لي لماذا لم يبحث عني حنظلة طوال تلك الأيام؟
-لأنه لايعرفك00ولأنه منذ ذلك الحين إلى ان هاجمني في البصرة وهو في السجن0
-لماذا سجن؟
-لقد لحقني عندما هربت بالفرس إلى بغداد،وشاء الله ألا يدركني إلا في بغداد، وحاول قتلي فصرخت وأجتمع الناس عليه ليجدوني مشقوق البطن وهو ممسك بسيفه00فعلموا أنه يريد قتلي00 وزعمت أنه هو الذي طعنني فحملنا الناس إلى الوالي00وشهدوا عليه بما رأوا وحكم عليه أن يحبس عاماً كاملاً،وكرهه الخليفة وقد كان من مجاليسه فزاد في مدته بضعة أشهر0
-ولماذا لم يقتلك في البصرة وقد ظفر بك؟
-لو قتلني لعلم الناس بذلك،ولأخذوه لأنهم يعلمون مابيني وبينه من العداوة 00 ويعلمون أنه قد حاول قتلي في بغداد0
وفي مخادعة قال غياث:
-وأين كان أخوك سعيد؟
-سعيد هو سبب شقائي00لقد بكيت عليه كثيراً وبكيت منه00إنه اليوم شرير ومسكين بائس!!وقد أفتقدته منذ ذلك اليوم الذي هربت فيه بالفرس00وظننت أنه قتل في الحجرة00فذهبت بعدما شفيت لآبحث عنه حياً أو رميماً00فما وجدت هناك سوى بقايا الحريق،وبحثت في الأنقاض فلم أجد شيئاً00فرجعت وسألت عنه في بغداد فلم يعرفه أحد،إلا شخص قال أنه رآه في السوق مرً ولم يره بعد ذلك!!
ومسح عبر فرت من عينه ثم قال:
-وذهبت إلى البصرة أتلمس أخباره،فما ظفرت بأكثر مما ظفرت به في بغداد00 ويئست وأنكفأت على نفسي حتى جاءني من أخبرني أنهم وجدوه على شاطيء دجلة ميتاً متعفناً بالقرب من بيت الطين00وقد أخرجوا من جوفه ماءً كثيراً00فعلمت أنه مات غريقاً فهو لا يعرف السباحة00 وقد نجا من الغرق مراراً لكن تلك كانت الأخيرة0
-ولماذا دخل النهر وهو لا يعرف كيف يسبح؟
-ربما ذهب لإستخراج الذهب الذي قذفت به في قاع النهر!
ثم مسح دموعه ثانية، وأسهب في الكلام عن سير شقيقه وقد وجد في ذلك عزاء له:
-لقد مات أبي وأنا في العشرين من عمري،أما هو فكان في سن الخامسة00 ولم يكن له عائل إلا أنا00وطفقت أعمل لأعيشه وأعيش أهلي ووالدتي ثم أولادي فيما بعد00 وعندما كبر حاولت مراراً أن أشركه معي في أعمالي00لكنه بدأ يصاحب اللصوص والمنحرفين،وحاولت ثنيه عما فيه00وبدلاً من أن أرده إلى جاد الصواب استجرني هو،وبدأت أشاركه طريقته وسرقاته!
ابتسم غياث بعد تجهمه الطويل وقال:
-لكنك لاتبدو فاتكاً ماهراً مثله!؟
-أنا رجل أحمق وساذج00 والسطو والإحتيال ليس من طبيعتي لكنها الغواية00 وقد أردت إثبات جدارتي أمام اللصوص، فأستوليت على الجمل الذي به الأموال لأستأثر به لنفسي ولأخي، فجنيت عليه وعلى نفسي وصارت الأموال من نصيبك0
-أنت حاولتو..
-لاتقل أنك ستعطيني بعض الأموال00فلم تعد لي حاجة في كثير أو قليل من ذلك00وقد تركت هذه الأعمال التي لانتاج لها سوى الدماء والمصائب0 وأنا لم أجيء طامعاً في غنائمك ياغياث إنما جئت أحذرك من حنظلة فإنه سيظهر لك قريباً0
-سأعمل بنصيحتك يامروان 0
وأحنى مروان رأسه إلى الأرض في كدر، ثم مد يده إلى غياث قائلاً:
-سأذهب فلم تعد لك حاج بي0
ومد غياث يده وودعه وتابعه حتى غاب عن نره، ثم حمل صرة ثيابه ورجع0
مشى إلى البستان آل مقدسي متكاسل الخطى، يحرث الأرض بنظراته وأتجه إلى القصر00وعند الباب صادفه سريع وأخبره أن رجلاً سأل عنه في غيبته فقال غياث متبرماً:
-إذا جاءك ثانية فبعه مايشاء من الثمار فلا حاجة لأن أقابله0
-إنه شخص غريب لم يأتِ لشراء شيء!
فسأل غياث وقد قرن مابين حاجبيه:
-هل قال إن أسمه حنظلة؟
-لم يذكر أسمه يامولاي0
-إذا جاء ثانية00هو أو سواه00فأدعني بدون أن يعلم0
فقال سريع بصوت خافت:
-هل هو عدو؟!
-إنه من جماعة السجين الذي هرب0
وبدون أسئل أخرى هزَّ الشيخ رأسه مؤذناً بالطاعة ثم أنصرف0
وجمع غياث بعض حاجياته ثم تذكر أنه لم يكن يملك نذ طرده والده سوى ثيابه فرد الحاجيات إلى مكانها00 وتمكنت منه النزاهة والورع فخلع ثوبه الفاخر ولبس أحد ثيابه القديمة!
وأرسل احد مواليه للبحث عن معبد بن ذاهب المقدسي ثم جلس يفكر فيما هو مقدم عليه00 وسمع حفيف ثوب بالقرب منه فألتفت ليرى عطر مبهوجةً بلقائه00
وقد آسفه منظرها وأحس بالرثاء لها لعلمه بمكانه من قلبها00 وقالت له معاتبة:
-لقد تغيرت يامولاي؟!
فقال بهدوء:
-وماذا تريدين؟
-لقد أصبحت محزوناً تذهب وحدك ولا تخبر احداً بوجهتك،وتغيب طويلاً ثم تعود مريضاً 00 أو تغلق على نفسك باب حجرتك!!ولم تكن هكذا من قبل!!
فقال تمهيداً لإنزال الخبر الثقيل عليها:
-وهل يسوؤك هذا ياعطر؟
-نعم00أنت لاتدري كم يسؤني ذلك!
فقال بنبر جادة:
-وما يدريك لعلي بذلك أهيئك لفراق سيحل بيننا!؟
فقالت باسمة وقد حسبته يمازحها:
-لن نفترق حتى لو ذهب أحدنا إلى أقصى الدنيا!
فقال بتجخم وقد تذكر الثغور وطلب الشهادة:
-وإذا رحلت أنا إلى مكان لا يوجد في الدنيا؟
-سألحق بك0
فقال بما يشابه الإبتسامة:
-هل ستقتلين نفسك؟
-وهل ستقتل أنت نفسك؟
-لا00لا يصح أن يقتل الإنسان نفسه،ولكن يبذل روحه في سبيل الله0
-هل تعني الجهاد؟
-نعم0
وقارنت بين هذه الغاية السامية وبين سيرة غياث بن عبد المغيث العابثة ولهوه السابق فقالت على الفور:
-ولكنك لست بصاحب هذه الأمور؟!
-لقد أصبحت من أصحابها إن شاء الله0
-هل تعني ماتقول؟
-نعم00 أنا جاد فيما أقول وسأرحل قريباً0
-هل تذهب لتموت؟!
-بل لأبحث عن الشهادة0
وسكتت قليلاً وقد تيقنت أنه جاد فيما اعتزم00 وإن ما مربه من أحداث غريبة في الأيام الماضية كان إرهاصاً لتوبته وقالت مشفقةً:
-لماذا لا تؤجل سفرك إلى حين؟
-ولماذا التأخر؟!سأمضي وأحارب لعلي أعمل عملاً يرضي الله فيرضى عني0
وتسرب الجزع إلى قلبها فسألت:
-وإلى من ستتركني؟
-أنت هنا عند أبيك00 وعند00
وسكت مطرقاً إلى الأرض فسألت في هم:
-وعند من أيضاً؟
-عند سيدك الجديد0
-هل بعتني إلى أحد يامولاي؟
-لم أبعك إلى أحد ولم أعد مولاكِ؟
-إذاً ماذا في الأمر؟!
-أنا ياعطر00 كنت لصاً00وقداشتريتك بمالٍ مسروق00 وكل مافي الأمر أني تبت إلى ربي وسأرجع المال المسروق إلى صحابه0
-ومن هو صاحبه؟
-معبد بن ذاهب00وأسرته0
-معبد المقدسي!هذا الأجير الذي يعمل عندك؟!
-لم يعد أجيراً عندي00وكل ماترين من الزروع والبساتين والموال ملك له ولأسرته00وأنت من ذلك00وقد كان في قص طويلة ستعرفينها فيما بعد0
وأخرست المفاجأة لسانها0فقال يواسيها:
-وابشري فمعبد فتى شجاع 00وعاقل0
وأضاف مبتسماً:
-وجميل!
وأجهض أزيز بكائها إبتسامته وعاتبته من بين دوعها:
-ألا يعز عليك أن تتركني هكذا؟!!
-بلى يعز علي00 ولكني آليت على نفسي الا اضع في يدي إلا مالاً حلالاً من كسب يدي0
لماذا لاتشتريني منه؟
-أنا لم أعد أملك غير ثيابي التي على ظهري00والتي في هذه الصرَّة!
فألتفتت إليه وقالت بإنفعال:
-إسمع00سأسأل معبداً أن يهبني لك؟
-لا أحب ذلك ولا أميل إليه0
-إذاً سأشتري نفسي منه بدراهم منجمةً كل شهر أهبه ما أتحصل عليه00
وسأذهب إلى بغداد عند زوجة سيدي الأول وسأعمل هناك00 فأنا أتقن الحياكة والدبغ والغزل00 وإذا أصبحت حرةً نتزوج وأذهب معك إلى حيث تريد0
-غير مجدٍ كل هذا 00 فأنا لن أستقر في مكان ولن آوي إلى بيت مريح00 سأعيش حيناً في خيمةٌ وحيناً على الأرض أو في كهف00كما وعشت مامضى من حياتي شقياً00سكيراً 00عربيداً00وعققت والدي00وقد رأيت بنفسك أطرافاً من حياتي الشائنة00وشهدت أيضاً توبتي وقد أبصرت في الإيمان لذتي وهناءتي التي أبحث عنها00فأصبحت الدنيا مثل السجن لي00وأنا أتزم الهروب من هذا السجن0
-لكن كل هذا لايستدعي أن نفترق!!فبإمكانك أن تعيش في بغداد صالحاً وتقضي أيامك هناك تائباً!؟
-بإمكاني ذلك00 لكني كرهت بغداد وكرهت الدنيا00أنا أحس بصوت يناديني00يدعوني إلى الدار الآخرة وأنا أريد أن أغتسل من ذنوبي بالجهاد حتى أموت وأنا مرتاح البال0
وتساقطت دموعها وقد أعيتها الحيل وامتنعت عليها الكلمات فصرخت في وجهه:
-بل أنت لاتريدني!
وسكت محزوناً وقامت من عنده على عجل00 وأطرق إلى الأرض00فيما دخلت إلى أحدى الغرف ناشجة ببكاء مر0
وقف غياث على باب القصر وفي يده خرج الذهب وفي الأخرى صرة ثيابه00وتأمل البت الكبير قليلاً00 ثم جعل يجول بين عرائش العنب00ومضى إلى أرض القمح والفواكه يتأملها كأنه يراه ولأول مرة!ثم جال بينات النخيل00 وكان العبيد يعملون في الحقول00وقد ضاعفوا جهدهم عندما رأوه00وسريع يتسكع ببطء ويشرف على كل شيء00 وأحد الخدم يجمع مخلفات الشجر وأغصان الصدر الصغيرة ويلقيها في محجر الأحراق المربع تمهيداً لحرقها0وانتهى بغياث المطاف في دار معبد في طرف البستان00ووجد الصبيان يلعبون قبالة البيت00 وعندما رأوه كفوا عن اللعب وفر بعضهم00وخرج موسى شقيق معبد واستقل سيد البستان محتفياً وأدخله إلى الدار وسأله بخجل:
-هل أستدعي معبداً ياسيدي؟
فقال غياث بكأبة:
-نعم فأنا أبحث عنه0
وخرج الفتى من الحجرة00 وبقي غياث يفكر فيما سيقوله لورثة ذاهب المقدسي00وكيف يواجه حنظلة00 وهل يمضي لسبيله ويفسح المجال لمعبد وشقيقه وأسرته لينتقموا من قاتل أبيهم00أم يبقى ويساعدهم!؟وهل سيتركونه بدورهم يمضي لسبيله أم سيعمدون إلى أعتقاله والإنتقام منه لأنه ساهم في إشقائهم؟!
ودخل معبد مرحباً بضيفه الكبير ولم يستطع إخفاء دهشته وهو يقلب بصره في غياث مستغرباً هذه الأكياس التي يحملها وهذه الثياب البالية التي حلت بديلاً عن تلك الجبة الفاخر والثياب الثمينة!! وهذه الطاقية الخلقة التي صارت مكان تلك العمامة الخضراء المطعمة بخرزة كبيرة فوق الجبين!!وفطن غياث لدهشته فأبتس وقال:
-ربما أستغربت زيارتي يامعبد!؟
فقال الشاب مدارياً خجله:
-لم انتظر أن تكرمني بهذه الزيارة00ولو أرسلت إليَّ لأخذت أُهبتي00 فالبيت دائماً مبعثر وهؤلاء الصبيان لا يتركون شيئاً في مكانه0
-فقال غياث:
-هذا العبث للأطفال لابد منه00 إنه صباهم0
ودخل موسى بشيء من الفاكهة فلما وضعها هم بالإنصراف لكن غياث استبقاه قائلاً:
-إجلس ياموسى00حديثي لكم جميعاً0
وجلس موسى وساد الصمت قليلاً00وأحتار غياث كيف يبدأ00لكن معبد أسعفه حين قال:
-لقد جاء الرجل الذي حدثتك عنه00والذي كان صاجباً لأبي00وسأل عنك فقلت له إذهب إلى القصر ظناً مني أنك هناك0
-تقصد حنظلة؟
-نعم00هل جرت بينك وبينه معرفة؟
-أنا لم أره في حياتي00 لكني أعرفه تمام المعرفة
-كيف كان ذلك؟!
-أريدك ان تريني أياه دون أن يراني0
-حسناً سأفعل ياسيدي00 لكني سأعيد لك كلامي فيه00فأنا أحذرك من مصاحبته00ولولا أنه جاء يطلبك اليوم لطردته من البستان شر طردة!
-بل أنا من يحذرك منه00 إن الذي قتل والدك هو حنظلة00وهذا الخرج بما فيه من الذهب الخالص،وهذه الزروع والبساتين والعبيد والأموال كلها لك ولأسرتك0
والتفت الشابان إلى بعضهما وقد شلت الدهش تفكيرهما00 وعقدت المفاجأة السنتهما عن الكلام00واعترت غياث رعشةً باردةً فأستند إلى الجدار متعباً ومضى في سرد قصته الثقيلة كاملة غير منقوصة0


الفصل الثالث عشر


مضى سائر ذلك اليوم بطيئاً ثقيلاً على آل المقدسي مشبعاً بالوجوم والدموع00 وقضوا نهارهم وجزءاً من ليلهم في خليط من الغبطة بعودة أموالهم المنهوبة وحزن ثقيل لتجدد ذكرى عائلهم الغدور،وحقد شديد على حنظلة وأصحابه الذين أجهزوا على والدهم وحاولوا سرقة ثروته0
لكن الحيرة كانت مستولية عليهم تجاه غياث بن عبد المغيث، هذا الشاب الذي شارك في شقائهم طوال هذه المدة،ثم نمت في قلبه الحياة،فرد الأموال المغتصبة في قناعة وورع!
إنه لم يفر ولم يطلب العفو خانعاً بل قال في شجاعة!إنه سيبيت الليلة في القصر، ثم يرحل من الغد إلى الثغور للجهاد في سبيل الله، وسيذهب إلى قريته الممرة ليلتقي بوالديه ويطلب رضائهما إن وجدهما00فإذا كان آل المقدسي يريدون حبسه أو رفع أمره إلى الوالي في بغداد فذلك لهم وسيمضي معهم قانعاً وطائعاً غير كاره!
وتأملوا حاله وكلامه،فلم يلبثوا حتى أدركوا أنه يستحق الشكر لا العقاب00لقد حافظ على الأموال التي نَّماها بالتجارة00 وعندما تاب إلى ربه وتنزَّه عن الحرام أرجعها إليهم كاملة!وقد كان بإمكانه أن ينعم عليهم بالقليل إرضاءً لضميره00ولكنه آثر أن يخرج منها كلها00حتى إنه خلع جبته الفاخرة وعمامته وخاتمه00ولم يأخذ سوى ثيابه التي جاء بها إلى بغداد!
أما غياث فلم ينم تلك الليلة في القصر، بل نام عند سريع عبده السابق في لحاف رخيص00لقد أخبر سريع بكل شيء وأمره أن ينشر الخبر بين كل الموالي00ويؤكد لهم أنهم لم يعودوا ملك يمينه بل صاروا كلهم وما يرونه من الزرع والدواب والمال ملكاً لآل المقدسي0وآوى إلى فراشه تلك الليلة راضي النفس00منشرح الصدر00 يحس أنه لم تمر عليه في حياته الصاخبة ليل أسعد من هذه الليلة!!وقبل أن يأخذه النوم00دخل عليه شخص يحمل مصباحاً فأضاءت الحجرة بنور المصباح00وتكلم الداخل في أدب:
-هل تأذن لي بالدخول ياسيدي؟
وعرف غياث صوت معبد فجلس في فراشه وقال باسماً:
-أدخل00فلم أعد سيداً لك ولا لغيرك0
-لقد أزدادت مكانتك عندي ياغياث بن عبد المغيث00
جلس معبد ودخل معه أخوه موسى ثم أعقبهم سريع00 ودخلت أم معبد متلفعة وجلست في ركن قصي من الحجرة00وقال غياث مداعباً:
-لقد كثر ضيوفك هذه الليلة ياسريع!
فرد معبد بجد وصدق:
-بل كلنا ضيوفك ياغياث00فأنت صاحب أفضال علينا!
وقالت أم معبد بصوت خافت:
-لقد أرجعت الحق إلى أهله 00وما جئنا إلا لنشكرك0
فقال غياث باسماً:
-لأول مر00أرى لصاً يسرق قوماً فيشكرونه!!
وقال موسى:
-لقد كان بإمكانك ياسيدي أن تحتفظ بهذه الأموال بدون أن تخشى مطالبة أحد00لكنك انتزعتها من اللصوص وحفظتها لأهلها0
-لو إستطعت إبقاءها في حوزتي لفعلت00لكني عجزت عن ذلك!!
وتحدث معبد قائلاً:
-لقد أتينا إليك هنا لنقول لك أننا قد وهبناك نصف المال الذي في الخرج00فلولاك ماعاد من هذه الأموال درهم واحد!
قالها ورفع السراج لتتبين له ملامح غياث متكدراً00وقالت أم معبد:
-لقد وهبناك هذا بنفوس رضيًّة0
فأجاب غياث بصوت عميق ووجه مبتئس:
-لا أريد شيئاً0
فقال معبد:
-إذا كان إرضاؤنا يهمك فخذ المال!
-لا أريد شيئاً0
فقال بتصميم:
-إذا أبيت00فستأخذ الربع0
-لاأريد شيئاً من هذا البتة!
وهتفت أم معبد من ركنها:
-إذاً فلتأخذ أرض القمح00وتكون جاراً لنا فلن نجد خيراً منك0
فلم يزد غياث على ان قال كلمته العنيدة!!
وتحدث موسى مجرباً حظّه:
-إذاً فخذ من المال ما يكفيك لإقامة تجارة وخُذ من العبيد ماشئت ليكونوا لك0
-هذه مكرمة منكم00لكنني لن آخذ شيئاً!
فقال موسى بما يشبه الغضب:
-لابد من ذلك00ولوكنت كارهاً!
فرد غياث بحدة:
-قلت أنني لاأريد شيئاً من المال00أريد أن أمضي إن لم تكن لكم حاجة بي0
وأحترموا إرادته فصمتوا طويلاً00وخرجت أم معبد وتبعها أبنها موسى00
وقال غياث لمعبد بدون أني نظر إليه:
-أجعلوني في حلٍ مما أكلت من أموالكم0
-أنت في حل ياغياث00وسنظل نذكرك ما حيينا0
-هذا معروف تسديه لي فما عدت أحمل هماً إلاأن أموت مخفاً سالماً مما للناس0
-بقي لي حاجة عندك ياغياث أرجو أن تقضيها؟
-ماهي؟
أن تترك هذا المكان الضيق وتذهب لتنام في فراشك الذي كنت تنام فيه بالقصر0
-القصر!!لم يعد لي حقٌ فيه القصر!
-أنا صاحب القصر00 وقد أذنت لك00
-هذا الفراش أحب إليّ00
-أريدك ان تجعل القصر منطلقك، وأنت تترك هذه الأماكن مثلما كان مؤلمك عندما جئت إليها00فلا تحرمني فرصة إكرامك ولو بالمبيت0
-لك ذلك00ولاكن لاتطلب مني شيئاً غيره0
وحمل غياث ثيابه،ومضى إلى القصر يتبعه معبد وسريع0وعندما دخل القصر المضاء ببعض السرج00اتجه غياث إلى غرفته وودعه معبد وخرج لكنه توقف عندما أعترضته امرأ وجثت عند ركبته متوسلة:
-أرجوك يامولاي00دعني أذهب معه00
فقال معبد بيأس:
-لقد أبى ان يأخذ منا شيئاً ياعطر!
-إنه عاجز عن المال فلو وهبتني له لقبل منك0
وقضم الشاب شفته السفلى وبدأ متردداً ولمحت عطر الكدر في وجهه فعلمت انه يريد بقاءها فلم تيأس وقالت:
-إذا تركتني له فتلك شهامة منك00سأظل أشكرك عليها0
-إذا رضي ان تذهبي معه فأنت له0
-كلمه يامولاي علَّه يستجيب لك0
ورجع معبد إلى حجرة غياث وتبعته عطر وبقيت قريباً من الباب وابتدر معبد القول:
-ياسيدي00لقد جاءتني00
وقاطعه غياث:
-عطر00اليس كذلك؟
-نعم00لقد رجتني أن أهبها لك وأنا موافق0
-إنها فتاة كريمة ومهذبة0
-ما كنت لأرغب عنها00لكنها أختارتك!
-ولا أدري لماذا؟! لكني اتمنى أن تجد راحتها عندك0
-إذاً فأنت ترفضها؟
-أنا لم تعد بي حاجة إلى شيء من متاع الدنيا فقد وجدت ما أسعدني واكتفيت به0
-أنت تضيق على نفسك بهذا!
-بل لِمَ لَمْ تذق نفسي السعة إلا اليوم00 فقد كنت مسجوناً ثم وجدت حريتي ولا رغبة بي في السجن ثانية!
-ستسكر قلبها بهذا الرفض!
-قل لها أنني عازف عن الدنيا00وكل أمنيتي طعنة أوسهم يغفر الله به خطيئتي0
-لقد ألحت عليَّ في الطلب؟!
-لو كنت أنوي الإستقرار لفكرت في شأنها00غير أني لاأشتهي سوى الرحيل0
-ستحزن كثيراً00
-بل ستنسى عاجلاً فهي مازالت صغيرة0
وسكت الرجلان000وتناهى إلى سمعهما صوت عطر وهي تدلف إلى داخل الدار مسرعة باكية فأحنى غياث رأسه في أسى وصمت بينما إستأذن معبد وأنصرف0
في الصباح وبعد أن صلى الفجر جلس غياث وحيداً في مصلاه مستقبلاً القبلة0وكان الضياء قد أكتسح الكون وتجلى الظلام وسمع غياث حركة خلفه عند الباب فألتفت بهدوء ليشاهد رجلاً غريباً ضخماً بثياب فاخرة ولحية موفورة الشعر مشموطة بصباغ أزرق00وملامح قاسية00وكان باد النعمة والترف00وقد قبعت تحت حاجبيه عينا ذئب تدوران في محجريهما بحثاً عن فريسة!
وتحدث الرجل هازئاً بصوت غير منخفض:
-لص محتال00يدعي التقوى ويصلي!؟
لفترة ظل غياث يتأمل الداخل بعين ثاقبة00 فلم يتوقع أن يدخل عليه حجرته رجل غريب،وبدون إستئذان00إنه يراه لأول مره لكن بسماع صوته الهازئ عرفه في الحال فهو نفس الصوت الذي كان يصدر الأوامر حين كان محاصراً برفقة مروان وسعيد في بيت الطين على شاطئ دجلة!ولم يشك لحظة أنه حنظلة00مدبر كل المأسي السابقة00وقاتل ذاهب المقدسي00
كان غياث يجلس في اقصى الغرفة الواسعة00 اما الرجل فكان يقف في الطرف الثاني قريباً من السرير الذي كان ينام عليه0 وتحرك غياث ليقف فنهره الرجل بشدة قائلاً:
-إذا تحركت قتلتك!
ورفع جانب جبته الطويلة كاشفاً عن سيف عريض قصير00 مؤكداً لغياث عزمه على تنفيذ تهديده فيما لو حاول فعل شيئ!
وأول شيء فكر فيه غياث هو المسافة التي بين مكانه وبين سيفه السابق المعلق على الجدار قريباً منه00لقد أعتزم القتال00فهو لايهاب أبداً،ولا يخشى الموت، وإن كان يتمنى أن يكون مماته في ساح الجهاد لا بيد مجرم مأفون، ومن أجل عرضٍ من الدنيا0
وتحدث الرجل:
-لا شك عندي بأنك غياث بن عبد المغيث00لقد كنت أتتبعك وقد علمت أنك تنام في هذا المكان00لقد تقاتلنا طويلاً ياغياث بدون أن نتقابل!
ولم يتكلم غياث فقال الرجل وهو يدير عينيه القاسيتين في الرياش الثمين والجدران:
-قصر جميل00وقد استمتعت بما في الكفاية00 وقد آن الآوان بأن ندفع المال إلى صاحبه إذا كنت تريد حياتك00!؟
فقال غياث بهدوء أزعج الرجل:
-لقد أرجعت المال حقاً إلى أصحابه0
-أنا صاحب المال00وأريدك أن تدلني على مكان الخرج الثاني من الذهب00فقد علمت من مروان أنك أسقطته في عرض النهر00 أما ما تحت يديك من الأرض والزرع فهو لك0
-هذا المطلب ليس جديداً00فقد سألني منه سعيد قبلك فمات قبل أن يحصل عليه00وربما تموت أنت مثله أيضاً!
استشاط الرجل غضباً وقال:
-لقد كان سعيد وأخوه مروان أحمقين جبانين00 وقد عرفت محبس سعيد،فأنا لم اترك موضعاً في هذا البستان إلا نبشته00وكنت أظن سعيداً كفؤاً للقتال والمواجهة فوضعت عنده أثناء نومه ما يفك به قيوده رجاء قتلك،لكن تبين لي أنه ضعيف وخائر!اما أنا فخلاف ماتظن00
كان يتكلم مرعداً مغروراً مما أغاظ غياث فقال متحدياً:
-لن تفعل أكثر مما فعل00
-إني أحذرك00 فأنت لم تعرفني بعد لذا تقول هذا الكلام00!؟
فقال غياث بهدوء وشجاعة:
-بل أعرفك00 فأنت حنظلة00 المجرم الغادر الذي قتلت صاحبك ذاهب المقدسي ورجاله00وأفقرت أهله من بعده في فعلة لاتليق إلا بمثلك!!
-أنت احمق وعنيد!!لقد كنت أعقدُ الآمال على لقائنا هذا ياغياث بأن يأخذ كلٌ منا نصيبه ويمضي لشأنه،فإذا بك تعيرني بما كسبته أنا بيميني وسيفي00وأخذته بعد ذلك بغدرك وخيانتك من رجل جريح وعاجز وغبي!
-لقد تبت إلى ربي ياحنظلة00وخرجت من هذا كله بثوبي الذي على ظهري، اما ماتبقى من الذهب في الخرج الثاني فقد استخرجته من قاع النهر بعدما هلك سعيد في سبيله وقد سلمته هو وكل الأرض والبساتين والتجارة إلى آل المقدسي ليلة البارحة00 وأنا أدعوك أن تتوب إلى رشدك وتتوب إلى ربك قبل أن تغتالك المنية وأنت على ظلمك0
-هل سلَّمت كل المال لهم!!؟
-نعم00فما كنت لأدخل جوفي مالاً حراماً وقد هداني ربي وبصرني بجرمي!
-ياوقح00الأموال لي00قلت أني كسبتها بسيفي00 وقد كان ذاهب يستحق ما جرى له،فقد فسد عليَّ الخليفة وزهَّده منَّي0
-وما شاني أنا بهذا كلَّه؟!
-لقد أفسدت جهودي00وقتلت رجالي00وتسببت في سجني00ثم أستوليت على المال كله00وتسأل عن شأنك بذلك!!
-لقد رحم الله آل المقدسي فحفظ أموالهم بي00ثم رحمني بعد ذلك وطهر يدي من أموالهم0
وبصبر نافذ سأل حنظلة غير مصدق ما يسمع:
-أين الأموال والخرج الذي استخرجته من النهر؟
-ألا تعقل!؟قلت لك أني سلمتها البارحة لأصحابها!!
-إذا لم تكف عن عنادك فسأقتلك00وأقتلهم جميعاً00وأحرق هذا البستان على من فيه فلا أحد يقف في وجهي!
ونهض حنظلة ملتاشاً بالحقد00وقفز غياث إلى سيفه وانتزعه من الجدار وسلَّه00فقال حنظلة في إستعلاء:
-لاتهلك نفسك00فأنا لا أهزم؟
-سينصرني الله عليك0
-أسمع00إني اهبك حياتك مقابل ما طلبت00؟
-لقد أخذ أهل المال مالهم،وليس لك عندي غير هذا السيف!
والتحم الخصمان في قتال طال التحفز له،فجاء عنيفاً شرساً!كان حنظلة شديد المهارة00ثقيلاً00 قوياً00يفوق غياث في المبارزة00وكان غياث أخف حركة00وطالت معركتهما00وبدألغياث أن خصمه لن يتعب أبداً،ولو قاتل لعام كامل!!وكانت قعقعة السيوف تمزق لسكون في جنبات القصر00فحضر الخدم00وتصايح النساء00وفزعت عطر لمرأى القتال00وجاء سريع لكنه لم يجرؤ على التدخل00وانطلقت عطر راكضة عبر عرائش العنب،وأحواض النخيل حتى وصلت إلى بيت آل المقدسي00 وطرقت الباب بعنف وخرج لها معبد مدهوشاً فصاحت به لاهثة:
-أدركنا يامولاي00رجل غريب يقتتل مع غياث بن عبد المغيث!
فتمتم معبد:
-إنه حنظلة ولا شك00
وصاح بأخيه:
-ياموسى00إنه قاتل أبيك!
وركض الشابان بسيفيهما تجاه القصر00تتبعهما عطر00ورآهما بعض العبيد فلحقوهما ومعهم عصي وصخور!
وتفصد العرق غزيراً من جسد غياث وبدأ التعب يسري في أوصاله،وقبل أن يصل معبد ومن معه إلى الحجرة تمكن حنظلة من الإطاحة به،ولم يتردد في أن يطعنه في خاصرته بحقد!
ووصل معبد واخوه ومن خلفهم من الرجال00 واكتشف الشابان أنهما تأخرا في الوصول00 وقعت عين حنظلة على عيون أبناء ضحيته،ورأى نظرات الثأر في أعينهما فتكلم متصاعد الأنفاس:
-لقد نال هذا مايستحقه00أما أنتما فأبتعدا خيراً لكما00
وزمجر معبد:
-الويل لي إن لم أقتلك!
وهتف شقيقه محمر الوجه:
-ياغدار 00أحدنا سيخرج حياً!
وتقدم الخدم بعصيهم وصخورهم وأرتعب حنظلة فتراجع وهو يهدد:
-إرجعا 00وإلا ستلحقا بأبيكما!
وهجم عليه موسى يتبعه معبد وجرح حنظلة موسى في لحظات جرحاً صغيراً، وبارز معبد قليلآ ثم آثر الفرار فلطمه لطمةً دفعته بعيداً ثم إنطلق هارباً00مخترقاً جداراً من العبيد الذين خافوا سيفه فاكتفوا بقذف رجليه ورأسه بالحجارة فولى وهو يعرج وينزف دماً0
ونهض معبد متأخراً ولحق به وتبعه الأخرون00تاركين غياث وقد انكفأت عطر تسقيه الماء وهي تذرف دموعاً بصمت0
وفي هذه الأثناء كان الخادم الموكَّل بإحراق مخلفات البستان قد ملأ محجر الإحراق بالمخلفات والجريد اليابس،وذهب إلى غرف العبيد ومكث هناك قليلاً ثم رجع حاملاً معه جذوة مشتعلة00ومشى حثيثاً حتى لا تنطفيء بيده00ولم يكن يعلم بما يجري في البستان والقصر00وقذف بالشعلة الملتهبة إلى محجر الإحراق 00ووقف يستمتع باللهب الذي إستطال سريعاً00مطقطقاً إلى عنان السماء00لكنه تراجع فزعاً عندما دوَّت صرخات بشعة00متتالية من جوف النار العظيمة!!وتحركت أجزاء من الجريد المشتعل،ووصل معبد ورفاقه إلى صوت الصراخ00لكن الصرخات استحالت إلى فحيح متحشرج، ثم خفت شيئاً فشيئاً،ولم يعد يسمع سوى صوت اللهب وهو يلتهم الجريد والأغصان الصغيرة ومن بداخلها!!
وجثا الخادم المفزوع على ركبتيه رعباً وهو يقول:
-لقد رأيت جسماً ملتهباً يتخبط وسط الأكوام المشتعلة وسمعت زعيقاً منكراً!!
وأحنى معبد رأسه وقال موسى:
-لقد كان حنظلة يختبئ في محجر الإحراق!!لقد نال جزاءه!!
وخمدت النار سريعاً وبكى الخادم وأحاط بهم زملاؤه فقال وهو يرتعش فزعاً مما سمع وشاهد:
-لم أكن أعلم أن أحداً كان يختبئ داخل المحجر!!؟
وتقدموا من جدار محجر الإحراق00 لكن لم يكن هناك سوى جمر مشتعل وبقايا جسد متفحم!




الفصل الرابع عشر ( الأخير )


أمر معبد بإخراج جثة حنظلة وتغطيتها لحين دفنها00ورجع هو وأخوه إلى حيث تركوا غياث ووجدوه قد أخرج من القصر إلى الدكة التي قبالته وقد فرش له وأسند00كان يضع يده على خاصرته00 وكانت ثيابه الرخيصة وأكمامه مصبوغ بحمرة زاهية0
جلس معبد عند رأسه00 ووقف الآخرون قريباً منه00وقالت عطر في صوت مبحوح:
-لقد بقر الرجل بطنه00لكنه مازل حياً0
وأحضر بعض الخدم لفافة وإناء،فأخذها معبد ورفع يده برفق وجعل يمسح خاصرته بالماء وينظف موضع الجرح00كان الشق واسعاً غائراً00مخيباً للآمال!
فقام بتضميده وربطه ثم سأل عطر:
-هل طلب شيئاً؟
فقالت:
-لا0
وانحنى معبد عليه بشفقة وقبلَّه وهو يظن أنه نائم00لكن غياث حرك شفتيه الجافتين وقال بخفوت:
-إنك كريم00إذ تقبل لصاً سرق مالك واستمتع به!
وهمس معبد له:
-لاتتحرك00ولا تتكلم فتزداد ألامك!
-إن الألم لا يهمني00فلم أعد أحفل بالحياة0
-لاتقل مثل هذا00!
-أظنني سأرحل00وحسبي أن اموت وقد تبت وطهرت يدي من الحرام0
ستعيش بإذن الله0
-لا تأمل كثيراً00فأنا أحسب أني سأجد راحتي بعد قليل00فأجعلني في حل00
-أنت في حل0
-حسناً00أريدك أن تذهب إلى قريتي اللمرة وتبحث عن والدي وتطلب لي الصفح منهما وتخبرهما قصتي0
-سأفعل 00واذا أيضاً؟
-لا شيء0
وصمت معبد ولم يتكلم أحدٌ لفترة وقطع الصمت غياث وهو يستقيم من رقدته ويقول في عزم:
-هات ثيابي وأحضر لي فرساً00سأستعيرها منك ثم أردها لك إذا وصلت0
فسأل معبد مستغرباً:
-وأين ستذهب؟!!
-سأذهب إلى الثغور00
-وأنت في هذه الحالة؟!!
-نعم00 ستربطني إلى الخيل بحبل ولن اسرع00 وساصل بإذن الله0
-هل جننت؟!لن أفعل ذلك أبداً!!
-بل ستفعل00وإلا ذهبت إلا قدمي!
وتحرك مؤكداً عزمه على الرحيل مما أضطره معبداً إلى تهدئته وارسل في طلب فرسه السابقة00ولما رآها غياث تناول صرة ثيابه وقال:
-هيا أحملوني عليها0
فقال معبد محاولاً ثنيه:
-إنتظر حتى تشفى ثم00 إذهب00
فقال غياث بيأس:
-يكفيني أنني شفيت من الحياة!
وصمت قليلاً ثم قال وقد تدحرجت على خده دمعة كبيرة0
-أحب ان يراني الله وأنا أسعى مقبلاً عليه لعلًّه أن يرحمني ويمحو عني مافعلت0
-إذاً سأرحل معك حتى تصل؟
-لا00لتبقى للعناية بأرضك وأسرتك00اما أنا فقد عشت غريباً،وأريد أن ارحل غريباً00وأموت غريباً00لعل الله أن يرحم غربتي!
وأراد الوقوف فعجز فتقدم منه سريع ومعبد وحملوه إلى الفرس نزولاً عند إرادته فأنكفأ على ظهرها00وربطوه بحبل إليها00وأمر معبد أحد عبيده ان يقود الفرس إلى ظاهر البستان00وتهادت الفرس ببطء إشفاقاً على صاحبها السابق 00لكن لم تمضِ غير مسافة قليلة حتى أرتخت يداه ومالت عنقه ثم سقط إلى الأرض0
أرادت عطر أن تقول شيئاً فخنقتها العبرة00وتهالك سريع على الأرض حزناً على سيده00وسارع معبد وشقيقه والآخرون إليه00
كان وجهه مضاءً كالمصباح وعلى ثغره إبتسامة!


تمت
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://albetoul.forumalgerie.net
 
رواية السجين يهرب...
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات البتول المسلمة :: الركن الأدبي :: الروايات الطويلة-
انتقل الى: